كان لافتاً، في الأشهر الأولى من عهد الرئيس أوباما، تلك الأولوية التي أعطاها لأفغانستان على العراق في الاهتمامات الأميركية، وذلك الضغط الذي مارسه على قادة الدول الأخرى في حلف الأطلسي (الناتو) من أجل تعزيز مشاركتها في الجهد الحربي في بلاد الأفغان.لم يكن هذا ظاهراً في عهد الرئيس بوش الإبن سوى في السنتين الأخيرتين من عهده ولكن في شكل أخف كثيراً من أوباما، فيما كان في السنوات الأربع الأولى لغزو 2003 الأميركي للعراق يعطي تركيزاً أشد على العراق من أفغانستان، ويعود ذلك في ما يبدو الى الاضطراب الأمني الشديد الذي كانت تعيشه بلاد الرافدين، أكثر منه تعبيراً عن أولوية استراتيجية أميركية. من دون هذا (وحتى على رغم وجود بن لادن في أفغانستان) لا يمكن تفسير كون البداية الأميركية من كابول بعد أسابيع من ضرب البرجين في نيويورك، على رغم إلحاح كثيرين في إدارة بوش (وزير الدفاع رامسفيلد ونائبه وولفوفيتز) على البدء بالرد عبر بغداد، وكانت التثنية الأميركية بالعاصمة العراقية بعد سنة ونصف سنة من الغزو الأميركي أفغانستان تكملة لم تأخذ قوامها لولا أن كانت البداية في كابول. يجد كل ذلك أسبابه العميقة في القلق الأميركي، (منذ أن تحولت واشنطن إلى قطب أوحد للعالم بعد انهيار السوفيات بين عامي 1989 و1991)، البادئ بالظهور أثناء النصف الثاني لعهد كلينتون (1993-2001) من اتجاهات واضحة لنمو اقتصادي كانت مؤشراته تدل إلى أنه من النصف الثاني للقرن الحادي والعشرين سيحصل انتقال للثقل الاقتصادي العالمي إلى مثلث بكين - نيودلهي - طوكيو، كما حصل هذا الانتقال في الربع الثاني للقرن العشرين نحو الولاياتالمتحدة من القارة الأوروبية. كان المدخل الوقائي من ذلك عند واشنطن هو المبادرة إلى ملء الفراغ الاستراتيجي الحاصل في المنطقة الممتدة بين كابول وشرق البحر المتوسط بحكم فشل عملية «التسوية» للصراع العربي - الاسرائيلي التي استغرقت منذ مؤتمر مدريد (تشرين الأول/ اكتوبر 1991) حتى فشل مؤتمر كامب دافيد الثلاثي بين كلينتون وباراك وعرفات (تموز/ يوليو 2000)، وبحكم عدم قدرة العاصمة الأميركية على تنفيذ سياسة «الاحتواء المزدوج» لبغداد وطهران التي أعلنتها إدارة كلينتون، وأيضاً بسبب الاضطراب الأفغاني الذي أعقب الانسحاب السوفياتي من هناك في 15 شباط (فراير) 1989 والذي لم يستطع أحد ضبطه من «المجاهدين» ثم «طالبان» وما قاد إليه من تداعيات كان أهمها اعلان تأسيس «تنظيم القاعدة» من بلاد الأفغان في شباط 1998 والذي كانت فاتحة عملياته ضرب السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام قبل أن يصل الى نيويوركوواشنطن بعد ثلاث سنوات. هذا الفراغ الاستراتيجي لم تكن معالجته ممكنة من بعد، ولا عبر وكلاء، بل عبر آليات كان واضحاً أن الحضور العسكري المباشر سيكون أساسها منذ أن أعلنت قمة «الناتو» في نيسان (ابريل) 1990، وهي الأولى بعد انتهاء الحرب الباردة مع انهيار الكتلة الشرقية في خريف 1989، أن مهمات «الناتو» ستكون أوسع من الإطار الجغرافي الأوروبي - الأميركي الذي تحدّد لدى انشاء ذلك الحلف في نيسان 1949 في ذروة الصراع مع موسكو. كان غزو واشنطنلكابول عام 2001 بداية لهذا الحضور، وإن حصلت إرهاصات لذلك بعد حرب الخليج الثانية سنة 1991، ثم كان غزو العراق تعزيزاً لهذا، ليحصل عبر ذلك كله وضع طهران بين كماشتي الحضور الأميركي في كابول وبغداد، وليحصل أيضاً وضع أصبحت فيه واشنطن قادرة على تحريك او إدارة ملفات المنطقة الممتدة بين الحدود الأفغانية - الصينية إلى شرق المتوسط، وملفات منطقة آسيا الوسطى والقوقاز (أنابيب النفط والغاز - الصراعات والنزاعات - امتداد النفوذ الروسي من جديد) وهي مثل منطقة الشرق الأوسط تضم مصادر الطاقة العالمية التي ترى واشنطن (وهذا سبب تركيزها الشديد في مرحلة ما بعد السوفيات على هاتين المنطقتين أكثر من أي منطقة أخرى بما فيها أميركا الجنوبية التي تحوي الكثير من مظاهر التمرد على العاصمة الأميركية) أن السيطرة على هاتين المنطقتين وطاقتهما هي التي ستمنع انتقال الزعامة الاقتصادية العالمية إلى شرق القارة الآسيوية ووسطها أو إلى احباطها. هنا، كان التوتر الأميركي - الايراني طبيعياً بعد غزو كل من كابول وبغداد، على رغم تحالف واشنطنوطهران فيهما، ما دامت الأخيرة أدركت أن الحضور الأميركي سيؤدي إلى استهدافها لاحقاً، لذلك حاولت عبر اللعب على المكونات الحليفة لطهران في بغداد وكابول إبعاد ذلك الكأس عنها، وتعزيز وضعها الاقليمي عبر تحويل الوضع الناتج من الاحتلالين الى مكاسب (وليس خسائر) لها، وكذلك حاولت عبر رعاية أوضاع مضطربة في العراق وأفغانستان إجبار الأميركي على الاعتراف بإيران كقوة اقليمية كبرى مقابل تسهيل الوجود الأميركي فيهما، خصوصاً أن القوى المتولية للأمور تحت الإشراف الأميركي في بغداد وكابول موزعة أو مشتركة الولاء بين واشنطنوطهران. إذا أردنا معالجة الصورة عبر منظار أوسع، يمكن القول إنه بعيداً من الاحتكاك الأميركي بطهران، فإن الولاياتالمتحدة أصبحت عند الحدود الغربية للصين عبر البوابة الأفغانية، وقد أدى غزو 2001 الأميركي لأفغانستان إلى جعل جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة (كازاخستان - أوزبكستان - قرغيزيا - طاجيكستان - تركمانستان) موزعة الولاء بين واشنطنوموسكو أو هي في موضع تجاذب النفوذ بينهما، فيما كان الوضع محسوماً مسبقاً في القوقاز منذ عهد يلتسين لمصلحة أميركا في أذربيجان وجيورجيا، مع الاستثناء الأرمني. ويتيح الوجود الأميركي في أفغانستان المجال لواشنطن للتعامل المباشر مع اضطرابات حيوية في الجوار مفترضة الحصول (الاضطراب الباكستاني - احداث صيف 2009 عند الويغور المسلمين في غرب الصين - اضطراب ما بعد انتخابات 12 حزيران (يونيو) 2009 في إيران والذي على رغم ميل ميزان القوى فيه لمصلحة المحافظين، فإن تداعياته المستقبلية يمكن أن تتيح للعاصمة الأميركية اللعب على المكونات القومية والمذهبية والحزبية الايرانية من أجل احتواء أميركي لطهران يتيح إعادتها الى وضعية 1953-1979). كذلك، فإن السيطرة على منصة كابول تتيح مستقبلاً لأميركا، خصوصاً إذا استبقت باحتواء وسيطرة أميركيين على المنطقة الممتدة بين أفغانستان وشرق المتوسط، إدارة تحالفهم الاستراتيجي الراهن مع الهند في شكل يؤدي إلى تطويق الصين، ويمنع أوضاعاً تؤدي الى تلاقي العملاقين الصيني والهندي، خصوصاً أن هناك بالترافق مع ذلك اتجاهات أميركية واضحة لجعل كوريا الشمالية في وضعية ألمانياالشرقية واليمن الجنوبي السابق من أجل تذويبها في الجنوب بعيداً من بكين. السؤال الآن: هل تنجح واشنطن في السيطرة على أفغانستان، على رغم أن حركة طالبان عام 2009 تسيطر على 80 في المئة من الأراضي الأفغانية، ونجحت في إنشاء مقاومة فعالة، فيما فشل العراقيون في انشاء مثيل لها؟ بعبارة أخرى: هل سيقود الرئيس الأميركي الأوضاع الأفغانية نحو مسارات ستكون مغايرة لما حصل لبريجنيف وخلفائه بعد غزو 1979 السوفياتي لأفغانستان، أم أنه سيفشل في تجنب مصير شبيه بما جرى للسوفيات في بلاد الأفغان؟ * كاتب سوري