كان الشعب السعودي قيادة وشعباً في ال23 من (تشرين الثاني) سبتمبر من العام الحالي على موعد لتحقيق حلم راود قائد النهضة والإصلاح في بلادنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مدة 25 عاماً. ذلك الحلم أصبح واقعاً ليعلن ولادة صرح من صروح العلم والبحث والتقنية، وهو جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، تلك التجربة الفريدة من نوعها سواء على مستوى الفكرة أو التصميم والتنفيذ. هذه الجامعة احتضنت بين مرافقها مئات الباحثين من مختلف الجنسيات وفتحت أبوابها للطلاب والطالبات على حد سواء للاستفادة العلمية والبحثية، وليعيشوا أجواءً تنافسية على المستوى الأكاديمي في ظل السماح بالاختلاط بمفهومه الشمولي، الذي يعد خطوة هي الأولى من نوعها في بلادنا، ولاشك أن اشتراك الجنسين في مهمة النهوض بالمجتمعات علمياً طبيعة انسانية، وجدت منذ فجر التاريخ، وكانت ولا تزال من مقومات المجتمع السليم من الاضطرابات النفسية والفكرية. إن هذا الصرح العظيم وبما سيقدمه من تقدم وتطور علمي وتقني للإنسانية جمعاء قوبل من فئة قليلة بالرفض والتبرؤ، وذلك لمجرد أجواء الاختلاط فيها، ولم يكن رفض هذه الفئة المتشددة لواقع الجامعة وليد اللحظة بل سبقه العديد من التحركات التي لا تهدف إلا لمحاربة منهج الوسطية والانفتاح الذي تعيشه بلادنا، فلقد نشر أحد أبرز مواقعهم الاحتسابية «شبكة نور الإسلام» قبل أربعة أشهر خبراً مفاده أن مجموعة كبيرة من الدعاة وطلبة العلم اجتمعوا بالمفتي العام للمملكة للحديث عن بعض المنكرات التي كان من أهمها ضرورة منع الاختلاط في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وقاموا بتقديم دراسة شرعية عن خطورة التعليم المختلط في الجامعات، وعندما باءت كل تلك التحركات بالفشل نجدهم يلجأون وكالمعتاد إلى إصدار العديد من المقالات والبيانات التي تهدف إلى إثارة المجتمع وتأليبه، فأحدهم دعا في بيانه، الذي وضع عنواناً له «اللهم إني أبرأ إليك من منكرات جامعة الملك عبدالله، ومن كل منكر»، أهل الخير للتحرك والقيام بواجب الإنكار على الجامعة والبراءة منها، وأما المحتسب «الانترنتي» الشهير بموقعه الالكتروني فقد كتب تحت عنوان «كلمة حق في جامعة الملك عبدالله»، مقالة استباح فيها لنفسه بالكذب وتزوير الحقائق بشأن مبلغ العشرة مليارات التي تم الإعلان بأنها وقف لخدمة الأبحاث العلمية بالجامعة، بزعمه «انه إنما تم وقفها لتجربة الاختلاط في المملكة»، وثالثهم يصدر فتوى بتحريم التعليم والدراسة في الجامعة وذلك لوجود الاختلاط. إن دعاة منع الاختلاط يسعون للفصل بين الجنسين مطلقاً في جميع مجالات وميادين الحياة، وأن تكون الأدوار والأنشطة النسائية كافة بمعزل عن الرجال، وذلك لأن الاختلاط في منظورهم وحصول اللقاء بين الرجل والمرأة هو أعظم طريق للوقوع في المحرم والمحظور! بل إنهم لم يكتفوا بذلك فحسب بل يرى بعضهم أن المرأة لو بقيت أمية وجاهلة لا تعرف القراءة والكتابة خير لها من أن تُعلم أو تتعلم في الأماكن المختلطة، وقد سُئل أحد المشايخ الذين تم تعيينهم أخيراً في عضوية هيئة كبار العلماء عن حكم اختلاط المرأة بالرجل، فكان من ضمن ما قاله: «اختلاط الرجال بالنساء الأجانب محرم... ولو تبقى المرأة في بيتها عاميّة لا تقرأ ولا تكتب، وجل نساء المسلمين في جميع العصور على هذه الحال! وقد تخرج من هذه البيوت التي رعاها نساء أميات لم يرين الرجال، ولا رأوهن، تخرج العلماء والقادة والدعاة، وجميع أصناف الرجال ممن يستحق أن يطلق عليه اسم الرجل وهن أميات». إن المغالطة الشرعية والتاريخية في قضية الاختلاط تكمن في الادعاء بأن الإسلام أقام أسواراً عالية للفصل بين الجنسين، بيد أن الحقيقة التي يتجاهلها بعض علماؤنا ودعاتنا أن الإسلام لم يحرم الاختلاط بقدر ما جاء إلى ضبطه وتنظيمه بضوابط أخلاقية، ولذلك كانت أرجاء المجتمع كافة في العصر النبوي يوجد فيها الجنسان، وكان كل منهما يمارس حياته الطبيعية فيه من بيع وشراء وتعلم وسؤال، وفقاً لما ورد في عدد ليس بالقليل من الأدلة والحوادث التي تصور واقع الحياة في ذلك المجتمع النبوي التي تقرر أن الاختلاط البشري بين الرجل والمرأة تحتمه الفطرة البشرية الطبيعية. ومن تلك الأدلة المتكاثرة في ذلك أن فاطمة بنت قيس طلقها أبو عمرو بن حفص ثلاثاً وهو غائب، فجاءت رسول الله فذكرت له ذلك فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده، وفي رواية «فإنها امرأة غنية من الأنصار لا تفعلي فإنها امرأة كثيرة الضيفان» رواه مسلم، وجاء في حديث عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود فقال: «لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟ فأرم القوم... الخ» رواه احمد وحسنه الالباني، وفي قول الصحابية والرجال والنساء قعود لفتة جميلة لواقع الصحابة في العهد النبوي. وعلى ذلك سار من بعدهم، فقد سئل الإمام مالك: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم؟ فقال «ليس في ذلك بأس». وقال «قد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله» الموطأ (2/935). إن ثمة تساؤلاً شرعياً كبيراً يوجه لمحرمي الاختلاط وهو هل الأصل في هذا الفعل من الرجل والمرأة أنه محرم أم أنه مباح؟! ومن هو المطالب بالدليل الصحيح الصريح الواضح؟ والإجابة عن التساؤل تكمن في إحدى أهم القواعد والأصول الشرعية، وهي أن الأصل في الأشياء عموماً، سواء الأفعال والتصرفات والأعيان، هو الإباحة ما عدا العبادات فالأصل فيها المنع، وأن كل من يدعي تحريم ومنع فعل أو تصرف فهو المطالب بالدليل الصحيح الصريح، وأما من يدعي الإباحة فهو غير مطالب بالدليل لتمسكه بالأصل الشرعي العام. ولكن بعض المدارس الفقهية وبما يغلب عليها من ثقافة تحريمية رأت أن تنأى عن هذه القاعدة الكبرى وتعترضها بدليل جزئي مختلف في حجيته شرعاً، وهو ما يعرف بسد الذرائع، لتجعل من الطارئ لديهم وهو المنع أصلاً راسخاً، والإباحة أمراً طارئاً لديهم، وبسبب طغيان هذه الثقافة في عصرنا اعتدنا أن نسمع من كثير من العامة عند استفتاءاتهم الصيغة الاستفهامية التالية: هل الفعل أو العمل الفلاني حلال أو هل يجوز فعل كذا؟ وذلك كله بسبب المفهوم الخاطئ من خلال هذه الثقافة السائدة. إن الاختلاط بين الجنسين غدت قضية هي من أبرز قضايا الفكر الديني السائد في المجتمع السعودي تحريماً وتجريماً، والحاجة تقتضي اليوم مراجعة هذه القضية، فمجتمعنا لم يعد منغلقاً كما سبق، والنهضة التنموية تفرض نمطاً مختلفاً عن الحياة الأحادية التي كانت هي الغالبة في المجالات العامة كافة. * كاتب سعودي [email protected]