تفكيك الماضي القومي العربي، مسألة نظرية وسياسية تستحق العناء، ذلك أن الماضي هذا، ما زال حاضراً بأدبياته التي تتناقلها أحزابه، وما زال ماثلاً في صورة أدوات قياس مرجعية، يختلط فيها الحنين مع الدعوة إلى العودة إلى «ينابيع السلف الصالح» القومي، مع تكرار الشعارات التي لم يبصرها الواقع العربي العام، فظلت أطياف تهوّم فوق حقيقة وقائعه. ينبغي الفصل الواضح بين فكرة القومية وأفكارها من جهة، وبين النتائج التي أسفرت عنها من جهة أخرى. ضرورات الفصل كثيرة، لكن من بين ما هو مهم منها، إعادة التدقيق في أعطاب البنية النظرية القومية ذاتها، أي في بذور قصورها الذاتية، وفي مدى الاختلاط الذي حصل بين «علميتها وخياليتها»، وفي ما ترتب على أخطاء البنيان النظري من خطايا على أبنية الواقع العربي، في «طوابقها» الفكرية والسياسية والثقافية، وفي قواعدها الاجتماعية والاقتصادية والاستقلالية والسيادية. حتى الآن، ما زال البحث في «مقدس» القومية والعروبة مسيجاً بأسلاك الدوغمائيات والشعارية والديماغوجيا، مع أن ناتج الفكرتين على الأصعدة العيانية الملموسة، لم ينل سوى علامات الفشل. لكن الفصل، لسبب فكري وعملي، بين النظرية وحصائلها، لا يهدف إلى تبرئة الأفكار من أخطاء منفذيها، ولا ينقاد إلى مقولة رائجة تتمسك ب «صحة العقيدة»، وتتغاضى عن النقاش في تطبيقاتها، مقولة تعلن صواب النظرية، ولا تجد حرجاً فكرياً أو سياسياً، في إعلان خطأ الحياة. هي سلفية قومية، ولو تمسكت بفقرات علمية انطوت عليها آراء المفكرين القوميين، وهي خيالية سلفية، لم تنجُ منها نظرات الكثيرين من آباء الفكرة القومية... وأبنائها. وإذ ينبئنا تاريخ القومية العربية، أنها جاءت متأثرة بعوامل تطور القوميات في أوروبا، ومناهضة للنزعة الطورانية العثمانية، فإن التاريخ ذاته، بشهادات عيانية بعيدة وقريبة، يُعلمنا أيضاً، أن القومية إياها، لم تبلغ مرادها في بناء الوطن الواحد الجامع، ولم تحقق أياً من أهدافها في الوحدة والتحرر والنهضة والتقدم، بل لعل الحصيلة الأبرز كانت ترسخ الوحدات الوطنية، ضمن حدود مستقلة ومعترف بها، وتبلور الجماعات داخل كل وطن، من دون إنكار لخصوصية مزاياها، ومن دون إلغاء شامل لخصوصية مسار تطورها المغاير، ضمن مداها الجغرافي – الاجتماعي الخاص. لكن هذه الحصيلة التي استوت وضعاً «دولتياً – اجتماعياً»، غير منازع في قانونيته، لم تستقم كوضع سياسي ناجز، غير منازع في مشروعيته. مصدر النزاع، كان الطموح القومي الذي حملته الانقلابات العسكرية المتوالية، والسياسات الوحدوية العجول التي تنقلت بين أقطار متباعدة، فلم تفلح في تقديم نموذج قابل للحياة. الفشل الوحدوي الذي نال من رصيد القومية والعروبة، لم ينل من جهود التعويض التي بذلها كل نظام سياسي على حدة. نُذُر التعويض الأولى أطلت على الأقطار الداخلية، في صيغة ضبط متصاعدة الشدة، تنامى حتى انتظم في آلية قمعية، طاولت المستوى المجتمعي فدجّنته، وامتدت إلى الحياة السياسية فعطلتها، والتفتت إلى كل مظاهر التعددية فألغتها. أما استثمار التعويض الثاني فكان مجزياً في السياسة الخارجية، خصوصاً في الأوطان التي اعتبرت مدى حيوياً، لهذا النظام الانقلابي العربي أو ذاك. لقد عاش شعار محاربة التجزئة خارج أراضي أنظمة الوحدة فقط، إذ لم تستشعر تناقضاً بين استواء دواخلها على استقلاليات واضحة، وبين دعوات الحرب التي تنادي بها. كان الصراع الوحدوي هذا، عنواناً لحروب عربية – عربية، لا مكان فيها لشعارات «الأخوة والتضامن»، وكان مغزى الحروب تلك أطماعاً كامنة، تجسدت في استباحة ونهب وغزو، من جانب «الأخ لأخيه»، عندما توافرت التغطية العالمية المناسبة. لم ينتبه الوحدويون، إلى أن السماح الدولي بالتدخل السياسي والعسكري، من جانب نظام عربي ضد الآخر، يقع ضمن تصنيف السياسات الاستعمارية. مع القوميين الجدد، كفّ الاستعمار عن أن يكون استعماراً. لم تستطع كل الشعارية القومية أن تموّه المقاصد العراقية في الكويت، مثلاً، وعجزت عن أن تستر عرْيَ الأهداف السورية في لبنان، ولم تفلح في تحوير المصالح المصرية في سورية، أيام وحدة البلدين، كما لم تنجح في القفز فوق صعوبات التوفيق بين متناقضات حسابات أطراف الوحدة المغاربية. وإنصافاً للواقع، يجب القول إن مدّ اليد القومية على هذا البلد أو ذاك، لم يكن لينجح لولا توافر عناصره المحبذة الداخلية، ما يعيد الاعتبار إلى مقولات الاندماج الداخلي، وكيفية تحققه ومدى تعمق هذا الاندماج. لكن ذلك لا يعفي من الإشارة إلى أن عوائق الداخل، ساهم في تغذيتها أيضاً المخيال القومي الذي أشير إليه، فعسّر أمور الوطنيات الداخلية، تعسيراً إضافياً، وجعلها أوراقاً يتلاعب بها، تأكيداً لنفوذ، أو طمعاً في تحسين شروط التحاق، بمراكز ومصالح السياسات الدولية. وبعد، لقد فشلت السياسات القومية الوحدوية، وفي الطريق، كانت عنصراً أساسياً في زعزعة السياسات الوطنية، ومن اللافت، أن ورثة تلك الطموحات لا يبادرون إلى تضمين نصوص وصاياهم الأخيرة، نصاً يعلن وفاة التراث الذي شهد الواقع يوميات وفاته. * كاتب لبناني