راج مصطلح الأمن القومي العربي، كثيراً، بعد سلسلة الانقلابات التي قادتها المؤسسة العسكرية، في عدد من البلدان العربية. واكبت الرواج «مفاهيم ثورية»، احتلت نظرية الوحدة العربية، مركز الصدارة منها، وشكلت الغطاء «السياسي – الفكري»، لجملة من التحالفات «الوحدوية»، ووفّرت الأرضية اللازمة، للكثير من الإجراءات الاجتماعية الداخلية، وقادت خطى جملة من الممارسات، التي لم تكن، كلها، منسجمة مع منطلقات الفكر الوحدوي، بل إنها تجاوزت هذا الفكر، في محطات سياسية عدة! اهتزاز الشعار الوحدوي، انسحب على كل الشعارات المتناسلة منه، فلا الأمن واحد، ولا الاقتصاد ولا الاجتماع ولا الطموحات المستقبلية... ثمة تنبيه واجب: إن استعمال كلمة الوحدة، في مختلف المجالات، فيه تجاوز واقعي، على المعطيات العربية، في المدى الجغرافي الواسع، وضمن كل مدى وطني، على حدة. تسجيل هذه الملاحظة، الأساسية، يفيد في إزالة غلاف «الحماسة القومية» عن مطلب تقتضي مقاربته حيوية فكرية عالية، ونقاشاً مسؤولاً «بارداً»، مثلما تساعد الملاحظة، على شجاعة الاعتراف بأن التجزئة كانت هي الأصل، في الأوضاع العربية، وأن الوحدة ما زالت الاستثناء الذي سعت إليه مشاريع «ثورية ونهضوية»، بإخلاص حيناً، وبديماغوجية عالية، في أحيان أخرى. لكن التنبيه السالف، لا يسقط ضرورة الاستدراك اللاحق، الذي يذهب إلى القول إن صعوبات العمل المشترك (لا نقول الوحدوي)، بين البلدان العربية، لا تقود إلى استنتاج متسرع، يلغي إمكانية شكل من أشكال الوحدة المستقبلية، العربية، ولا يسفّه الطموح إلى الوصول إلى مستوى وحدوي عربي، والسعي من أجل بلورته وتطويره وتجسيده، واقعياً، على نحو ملموس، في أطر وهياكل وقوانين ومؤسسات... مشتركة. إذا توخينا التفاؤل الدقيق، في هذا المجال، وجب القول إن «فكرة الوحدة»، تظل بوابة أمل واقعي، مستقبلي، لا يستطيع «العرب»، في أقطارهم، الدخول إلى عالم «التوازنات» والاختلالات الدولية، إلاّ من خلالها... دخولاً، فيه حشد من عوامل «الحضور»، القوي والوازن والفاعل والمتفاعل... أي كل ما يمكّن من انتزاع ما يتوجب انتزاعه، من مصالح حيوية، عربية، وتحصينها، ومنع الارتداد على نتائجها، أو سلبها وحجبها عن مستحقيها، العرب، قطريين ووحدويين، في الوقت ذاته. لغة المصالح هذه، هي لغة «الأمن الجماعي»، الذي لا يعني الجانب العسكري، فقط، بل هو يعبر عن منظومة الدفاع عن الذات الجمعية، والوطنية، في كل أبعادها الحيوية، يضعنا ذلك، أمام مسألة إعادة تعريف «الأمن العربي»، من دون اختزال، ومن دون ابتسار، ومن دون استسهال بلاغي، يرافق عادة اللغة الخطابية. نفترض أن «تعريف الأمن»، غير متوافق عليه، بشموليته، مثلما نفترض وجود تعريفات مختلفة، تقيم في أروقة «السياسي المحلي»، وتقعد عن دق باب «السياسي الاستراتيجي»، الذي يحيط، وحده، بأبعاد التعريفات، وباحتمالاتها المستقبلية، وبتعرجات سيرها، نحو المستقبل المأمول، مما يتطلب صياغات متجددة للتكتيكات الظرفية، التي تحتمها موازين القوى الدولية المتبدلة، والأحوال الوطنية المتقلبة. كحكم عام، يجب الاعتراف بالواقع الحقيقي الآتي: إن الأمن، بشموليته، مهتز في الأقطار العربية. يطاول الاهتزاز كل بلد، وتختلف التداعيات والآثار السلبية للاهتزاز الأمني، بين «قطر» وآخر، تبعاً للبنية العامة لهذا «الوطن» أو ذاك، وبالتناسب مع مستوى الاندماج الوطني، أو الافتراق المجتمعي، وما يرافقهما من آليات تداول السلطة، وتوزيع الناتج الإجمالي و... في كل تشكيلة اجتماعية بعينها. على هذا الصعيد، لا يستطيع مراقب منصف، أن ينسب إلى بلد عربي محدد، رسوخاً في الاستقرار، الجماعي أو الفردي... واستطراداً، لا يمكن الادعاء بأن الأمن «البيني» للمجموعة العربية، يوفر مظلة تعويض أمنية، تسد الثغرات التي تعتري «الأمن العلائقي» داخل المجتمعات المعنية. على سبيل التحديد، ما زال «الأمن العربي»، معروضاً على طاولة خطرين أساسيين إثنين، الأول داخلي، والثاني خارجي. في الدواخل العربية، تأتي الرياح الخطرة من أبواب القمع والاستبداد وتغييب الديموقراطية، ومن جهات الفقر والجهل والأمية، وانبعاث العصبيات القبلية، وتراجع إرهاصات المستقبل الواعدة، أمام سيادة الماضي وموروثاته... هذا، مجتمعاً، يعطي البنى العربية سمة العجز عن مواجهة تحدياتها، مثلما يوجه «أصابع الفشل» إلى المشاريع «التغييرية والإصلاحية» كلها... لأنها ناءت برفع أثقال ادعاءاتها! من الضروري التنويه بأن الدواخل هي الأنوال التي تحاك عليها خيوط التلاعب ب «الأمن القومي والوطني»، وهي التي تستدرج التدخلات على أنواعها، ثم تستظل أفياء حمايتها، لأسباب فئوية، تتوزع بين السياسي والديني والشخصي... وما إلى ذلك. يضع ما جرت الإشارة إليه، المجموعة العربية، عموماً، في موقع التابع دولياً، وفي موقع المستهدف، إقليمياً. بالملموس أيضاً، يقف «المجموع العربي» أمام أسئلة تحديات إقليمية ثلاثة، مصدرها إسرائيل وإيران وتركيا. من دون إطالة، تحتل إسرائيل موقع الخلخلة التاريخية، لكل ما يمت إلى الاستقرار العربي بصلة، وهي مصدر التهديد الدائم، الذي سالت أدبيات عربية كثيرة في توصيفه، من دون أن تفلح الأعمال والسياسات، في وقفه، أو في وضع حد لترجماته العملية الخطرة. يختلف الموقع الإيراني، في أنه لا يأتي الصلة بالمجموعة العربية من موقع العداء المسبق لها، لكنه لا يتوانى عن جعل الجغرافيا، التي تختص بتلك المجموعة، مسرحاً لنفوذه المتصاعد، وخزان مراكمة لأوراق القوة، التي يتيح تجميعها الآني، استعمالها اللاحق، لدى البحث في صوغ الموقع الاستراتيجي العام لإيران، وما يلحق به من اعترافات دولية وإقليمية بمصالحها المشروعة. لا يخطئ التحليل كثيراً إذا ذهب إلى الاستنتاج، أن إيران نجحت، من خلال سياستها في الداخل والخارج، في تكريس لون من ألوان الاعتراف بدورها، على خلفية متانة وضعيتها العامة، وتحصينها في مختلف المجالات، بخاصة العسكرية منها. يختلف الموقع التركي عن نظيره الإيراني، في أنه صاحب دور أصلي في المنظومة «الاستراتيجية الغربية»، وهو يتمتع، بالتناسب مع هذا الدور، بجملة من المزايا الخاصة، التي تناقضت طوال العقود الماضية، مع السعي العربي العام، إلى تكريس وضعية «أمنية قومية»، مستقرة. تبدو تركيا اليوم، ساعية إلى إزالة كمّ من الهواجس التي علقت بدورها، بخاصة في الجانب المتعلق منه بالتنسيق العسكري مع إسرائيل، يساعدها على ذلك، تبدل المعطيات الجوهري، الذي أصاب مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي، وما رافق هذا التبدل من اتفاقات عربية – إسرائيلية وعلاقات ثنائية متبادلة. بكلام موجز، يدخل التحدي الإيراني، الجغرافيا العربية، على رافعة عروض الشراكة، من موقعه وحسب رؤيته، في الصراع العربي – الإسرائيلي، بينما يأتي التحدي التركي، العربي، من بوابة عرض التخفف من أحمال «الشراكة السابقة» مع عدوهم التاريخي، إسرائيل. التحديان، يخطبان ود المجموعة العربية، لكنهما يتوزعان محاورها أيضاً! وضمن لعبة المحاور، يزداد أمن «الخارج» حصانة، بينما يزداد انكشاف «الأمن القومي العربي»، ويظل مشرعاً على رياح التداعيات. * كاتب لبناني.