المعطيات والتشريعات الدينية هل هي بمعزل عن المناخ الاجتماعي الذي هي حلٌ فيه؟ وهل الدين يراعي الأعراف الاجتماعية ويتعامل معها بمرونة ونسبية ويراعي حضورها العميق في الوسط الذي تتنزل فيه؟ أم يتجاوزها ويبخسها ويحتم الاحتكام لمعطياته بصرف النظر عن تباين تضاريس الجغرافيا الاجتماعية وتضادها أحياناً مع معطياته؟ لا أظن ذلك، إذ الدين في مقاصده السامية إنما تنزل على البشر من لدن خالق البشر الأعلم بمصالحهم وقدراتهم وتراكيبهم المتباينة بحسب الظرف والحال الزمكاني، ومن عدله أنه شرع الشرائع بما يتفق مع إمكانهم البشري المتحول وغير القار. ولذلك لو عدنا لاستقراء النصوص والأحداث النبوية في عصر الرسالة وكيف كان عليه الصلاة والسلام يوازن بين الديني والدنيوي في عامة تشريعاته لوجدناه عليه السلام يعطي للسائد والقار الاجتماعي قيمته ومكانته لعلمه أن اقتلاع الموروث والتقاليد الراسخة في الوعي التقليدي الاجتماعي غير ممكن كل الإمكان وإنما كان هديه يوازي حكمته العظيمة «سددوا وقاربوا»، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدرك أن اقتلاع الوثنية الاجتماعية أصعب من اقتلاع الوثنية الدينية، وذلك ما كان يجعله يتوازن مع الوعي الاجتماعي لحظات التشريعات الدينية. ثمة مثالات تكرس إدراك النبي عليه الصلاة والسلام حتمية التراخي والنسبية في تشريع الشرائع كما حتمية إعطاء هامش من التعايش مع البداهات الاجتماعية الراسخة في الوعي الاجتماعي رسوخ اللاهوتيات، أضف إلى أن النبي عليه السلام كان يؤكد أن الدين لا يتعارض مع التجارب الإنسانية التي تتقاطع مع الدين في تدشين المصلحة والمنفعة كما في قصة حلف الفضول، والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبدالله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»، (صححه الألباني). حلف الفضول كان في الجاهلية ويقال إن النبي حضره مع عمومته وعمره كان حينها 20 عاماً ويوافق هذا الحلف عام 590. من خلال هذا الحديث يكرس النبي عليه الصلاة والسلام قيمة الإفادة من الآخر (الدنيوي) والذي تمثّل بتجربة كانت في الجاهلية، وذلك ما يوحي بأن المشرع مع أي مشروع ومعطى حتى وإن يكن من الآخر المختلف دينياً بشرط توازيه مع المصلحة والإثراء النفعي للبشر، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لحكمته امتنع عن تشييد أقدس بقعة وإعادتها إلى حالها الأصلية المتفقة مع الشريعة والتاريخ، وذلك كان من خلال امتناعه عن هدم الكعبة وبنائها على قواعدها العتيقة، «أخرج البخاري بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم». (صحيح البخاري)، وقد علق الحافظ بن حجر رحمه الله على هذا الحديث كما في الفتح بقوله: «ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة».هذا الحديث كرس تأكيد ضرورة مسايرة المدرك والمقدس الاجتماعي حال عدم تعارضه مع الثوابت والمقاصد الدينية العليا. لو عدنا إلى لحظتنا وواقعنا واستقرأنا مدى الوعي الذي يكتنفه من يعتبرون أنفسهم أو يعتبرهم المجتمع في لاوعيه أنهم المسؤولون عن تسيير شؤون المقدس ورأس المال الديني ومدى إدراكهم المقاربة بين الديني والدنيوي والمتمثل بالعوائد والأعراف والقيم الاجتماعية، لوجدنا أننا أمام تأزم كبير، إذ المكرس قسر الدنيوي لأجل الديني حتى وإن لم يكن ثمة تعارض بينهما لمرحلة تهديم المسلمات والقيم الاجتماعية واعتسافها لمصلحة الديني، وذلك ما صنع حالاً من الشيزوفرينيا (الفصام) الفكرية والأخلاقية في الوعي والقيم داخل اللاشعور المجتمعي الذي وجد أنه يجبر أن يتخلى عن قيمه تحت دعوى تعارضها مع قيم الدين، ما نشأ عنه تشكل متضادات قيمية وأخلاقية داخل ذات المؤمن التقليدي الذي تتنازعه القيم الدينية التي تفترض عليه لوناً من الامتثال التسليمي والقيم الاجتماعية الأكثر عمقاً وتمكناً نظراً لأنه داخل مجتمع له رواقاته القيمية المتجذرة كتجذر قيم الدين، وذلك ما أنتج متلازمات «النفاق/ الازدواجية» كشعور تلقائي بقائي كحال من المسايرة بين الدين والدنيوي الاجتماعي. «الحصاد» ابتلي المجتمع برهوط من الرساليين الدينيين الجدد الذين تزعموا وزعموا أن كل الحياة دين، وذلك نتيجة فهمهم للنصوص الدينية بشكل منقوص كنص: «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين». متجاهلين أن الحياة دين ودنيا وليست ديناً فحسب.. إدغام الدين في كل قيمة اجتماعية لأجل الهيمنة عليها وإلباسها ملاءة الدين عنوة من دون النظر إلى المصالح والمفاسد ومن دون إدراك للمقاصد الشرعية التي تعنى بمصالح العباد وتقدمها على النص، وإن كان من قبل المشرع فإن ذلك سيؤدي بالنهاية إلى تدنيس المقدس الديني وتحويله إلى معرة وعنت يتأباهما الدين الذي يؤكد «ما جعل عليكم في الدين من حرج»، «فاتقوا الله ما استطعتم». * كاتب سعودي. [email protected] @abdlahneghemshy