حولت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وزارة الثقافة في البحرين إلى ما يشبه خلية النحل. فالوزارة لا تعرف حالاً من الاستراحة، أو الإجازة على مدار السنة. الأنشطة الثقافية والفنية في حال من الاستمرار حتى في الصيف. ومن يراجع الأجندة السنوية للوزارة، يلحظ كثافة أنشطتها وتنوع هذه الأنشطة وانفتاحها على العالم العربي والثقافات العالمية. فالوزيرة التي جاءت إلى منصبها من الدراسة والعلم جعلت المنامة عاصمة ثقافية دائمة، وجسراً بين البحرين والخليج كما بين البحرين والعالم العربي والغرب. ومعروف أن الوزيرة سعت إلى ترميم أشهر المنازل القديمة وتحويلها إلى مراكز ثقافية تعنى بهموم وشؤون مختلفة. ويكفي الإنجازات التي يحققها مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وهو مؤسسة أهلية غير ربحيّة تترأس الوزيرة مجلس أمنائها. يستضيف المركز، منذ اثنتي عشرة سنة، عدداً من المفكرين والأدباء والشعراء العرب في برنامج على مدار العام. ومن بين بيوت المركز العشرين، قاعة محمد بن فارس لفنون الصوت الخليجي، وتحيي أمسياتها فرقة تراثية وتفتح أبوابها مجاناً لكلّ محبّي هذا الفن. هكذا، تبرز ظاهرة فريدة في طريقة تعاطي جهة غير حكومية مع المواطنين العاديين، وعلاقة مثمرة بين الثقافة والناس بعيداً من النخبوية. وتأتي هذه النشاطات المميزة بفضل جهود جادة وشغوفة تبذلها الشيخة مي التي تؤمن أنّ التغيير يبدأ من الذات، وتسعى إلى تطوير علاقات الإنسان الجمالية بالواقع، خصوصاً الفنّ كشكل مميز من أشكال الوعي الاجتماعي. وخصصت الوزارة هذا العام للفن التشكيلي البحريني تحت عنوان «الفن عامنا». ومن موقعها وزيرة للثقافة مؤتمنة على العمل الفنّي في مملكة البحرين، تثق بقدرة الجمال على تغيير العالم نحو الأفضل، وتطلق مشاريع وبرامج تشجيعية للشباب بغية الكشف عن المواهب الحقيقية في المجتمع البحريني والاستفادة منها في صوغ ملامح المستقبل. وهي أيضاً باحثة ومؤرخة تعمل جاهدة على تعريف العالم بتراث البحرين أو دلمون. في المنامة التقت «الحياة» الشيخة مي وكان هذا الحوار. قلت مرّة: «وزير الدفاع له مهمة الذود عن حدود وطنه، أما وزير الثقافة فعليه الدفاع عن الهوية»... ومن الواضح أنك استخدمت «الجمال والفنون» سلاحاً، فهل تراهنين على جعل الذائقة الفنية من الثوابت لدى الأجيال الآتية في البحرين؟ - هذا رهاني الذي أعمل عليه، وأحاول أن أمرر قدر الإمكان رسائل إلى أهل البحرين وزوارها بغية رفع الذائقة البصرية سواء في المعمار أو في الموسيقى أو في مجالات الطباعة وفي مجالات الثقافة والفنون عموماً، وتنمية الذائقة الجمالية التي أرى أنها أمر أساسيّ وضروري وليست ترفاً. هل يمكن البلدان العربية أن تستعيد يوماً عافيتها الجمالية على صعيد الثقافة؟ - إننا نعمل على أساس الأمل، ولو لم يكن لدينا الأمل بالتغيير نحو الأفضل لوقفنا في مكاننا. كل الأفكار بدأت ببذرة متحمسة للإنجاز، وانطلقت وتحولت لمشاريع كبيرة. في رأيك هل يمكننا الرهان على ظاهرة «الربيع» في العالم العربي، على رغم مآسيه؟ وهل من بارقة أمل؟ - لا أرى بارقة أمل في هذا الربيع، أصلاً هو بدأ في الشتاء، حتى توقيته لا دخل له بالربيع، لا شكلاً ولا مضموناً ولا نتائج، فقط الدمار الذي نراه على مدى ثلاثة أعوام. كيف لي أن أسميه ربيعاً، ومن نتائجه أن تُدمر مدينة تاريخية مثل حلب؟ مدينة مسجلة ضمن قائمة التراث العالمي في ال «يونيسكو»، والآن هي مدينة مهددة بالدمار. كل ما يدمر تراثاً إنسانياً له قيمته عند شعب من الشعوب، لا يمكن أن نسميه «ربيعاً». بصفتك مؤرخة وباحثة تعملين بمنطق من يحلل الحدث التاريخي عبر منهج يقوم على أسس صارمة بهدف الوصول إلى الحقيقة، ألا تعتقدين أنّ تاريخنا العربي يحتاج إلى إعادة بحث وتحليل؟ - كلّ التاريخ في حاجة إلى قراءة ذكية تستنتج وتربط الأحداث بعضها ببعض، ولكن لا أحد منا يستطيع كتابة الحقيقة الكاملة. لا توجد حقائق كاملة أو يقينية بصورة قاطعة. التاريخ مصنوع من وجهات نظر تمليها قوى معينة في وقت محدد من التاريخ، فلا يسعنا الاقتناع بما يمكن أن يقوله مؤرخ يجزم بأنه وصل إلى الحقيقة. كل ما هنالك اجتهادات في مثابة محاولات جادة للاقتراب من وجهة نظر معينة محكومة بالسياسة، وتتشكل وفقاً لرؤية الأفراد الذين يصنعون التاريخ. توافقين الرأي القائل إن من يفهم الماضي يمكنه أن يطور الحاضر ويتنبأ بالمستقبل؟ - إن من يقرأ التاريخ جيداً يحضّر نفسه للتوجّه نحو مستقبل أوضح، وتحكمه الرؤية والأهداف. نحن كأفراد لا نستطيع تغيير كل ما حولنا ولكن، لنبدأ من أنفسنا، من محيطنا الشخصي الصغير حتى نصل إلى تأثير حقيقي في مجتمعات بأسرها. البحرين أو دلمون، كما يذكرها التاريخ عادة، أرض عمرها خمسة آلاف سنة، تمتلك موقعاً استراتيجياً، حيث كانت عبر التاريخ حلقة وصل بين حضارات مختلفة، فهل ما زالت البحرين تلعب الدور نفسه؟ - كل الحضارات قامت على تمازج وأخذ وعطاء، ولعلنا نحن كبحرينيين مقصرون في الالتفات إلى استثمار ما تمتلكه أرضنا من تاريخ ثري، الغرب مسحور فيه. نحن لم نقدم بعد ما يليق بتاريخ هذه المنطقة، على الأقل من وجهة نظري. أعتقد أننا مقصرون، وكأننا اكتفينا بما لدينا، وتسعدني إنجازات مدن مجاورة لنا مثل دبي التي أعتبرها مفخرة حقيقية. باختصار يجب ألا نكتفي بما أنجزناه. تجربة البحرين البارزة عربياً على مستوى الفن التشكيلي هل يمكن أن تشكل حافزاً لدول الجوار؟ - تميزت البحرين بحركة تشكيلية مبكرة نسبياً بين بلدان المنطقة، غالبية البلدان العربية الثرية تصرف مبالغ طائلة على اقتناء أعمال فنية عالمية، بينما تهمل الفنانين العرب. ونحن في البحرين عندما فكرنا بإنشاء متحف الفن الحديث اعتمدنا على قاماتنا التشكيلية المحلية، أنا أفخر بتجربة الفنانين البحرينيين وأعتبر أنه الأجدى لنا أن نعتز باللقى الثرية الموجودة لدينا لمصلحة وجودنا الحضاري، وأسعى شخصياً لاقتناء أعمال لفنانين عرب، وأتمنى أن أرى متحفاً للفن العربي المعاصر في بلد عربي وأسعى لتحضير ذلك في البحرين. كيف تقوّمين مشاركة البحرينيين وتأثيرهم في النشاطات الثقافية التي تحتفي بها وزارة الثقافة على مدار العام؟ - هنالك إقبال جميل، ومع الوقت يكبر جمهور الفن أكثر فأكثر، وأنا أراهن على أنه سيزداد في المستقبل. نحن الآن في طور التربية الجمالية وعاجلاً أم آجلاً ستؤتي ثمارها. هل ثمة دراسات بيانية لرصد مدى تأثر الجيل الجديد بأنشطة وزارة الثقافة؟ - يمكننا تتبع ملامح الوعي لدى الجيل الجديد من خلال مشروع ثقافي نشرف عليه في عنوان «تاء الشباب»، والوزارة تتبنى أفكارهم من دون التدخل فيها. وعلى مدى خمس سنوات أدهشتنا أفكارهم وطروحاتهم، فهم يملكون الجديد دوماً، ومن بينهم أسماء واعدة وتجارب نحتضنها ونحولها إلى حقيقة. ومع هؤلاء الشباب غادرنا دور الثقافة الرسمية كالمسرح وغيره ونزلنا إلى الشارع وأنجزنا مشاريع ثقافية متاحة للجميع، أي أتحنا لهم فرصة الإبداع مباشرة أمام الجمهور واستثمرنا أماكن حيوية مثل قلب المحرق القديمة وباب البحرين حيث أقيمت مسابقة للتخطيط العمراني حضرها الشباب. علمنا أن البحرين ستكون ضيفة في مهرجان أصيلة لهذا العام. ماذا عن هذه المشاركة؟ ماذا تحمل البحرين معها لأصيلة؟ - تحاول أن تحمل الجديد، وأن تستفيد من تجربة عريقة كرسها الأستاذ محمد بن عيسى، على مدى 35 سنة، نعتمد على مجموعة من الشباب يعبرون عن البحرين في شكل بعيد من التقليدية. باختصار نحاول أن نضفي روحاً جديدة تليق بأصيلة وتاريخها في مجال العمل الثقافي. تناقل بعض وسائل الإعلام أنّ ثمة منتقدين لجهودك التي ترفعين بها شعارات جمالية وفنية بغاية دفع عجلة التطور الاجتماعي. هل تعتبرين من يحاول سحب المجتمع إلى الخلف عائقاً أمام مشاريعكم وطموحاتكم؟ - أي محاولة في أي مجتمع وفي أي مكان وزمان لا بد من أن تلاقي بعض المستهجنين، والأفكار الجديدة والمخالفة من الطبيعي أن تواجه من لا يرغب بها، فالدروب ليست سالكة أمام التجديد، وهنالك جانب إيجابي من الحملات السلبية على الأعمال البناءة لأنها تساهم في التعريف بما يدور فيها، وفي الوقت ذاته تؤكد جدية التطور.