بناء على تعديل جزئي لمقولة «لا ديموقراطية بلا ديموقراطيين»، يضيف اليها و»لا ديموقراطيين بلا ثقافة ديموقراطية»، كان بعضهم قد شكك باكراً في قيمة المنجز الديموقراطي للربيع العربي، فهو ربيع ضروري للحرية، ولكنه قد يلد نقيضها في مجتمعات لم تعرف الديموقراطية إلا هياكل مفرغة من تاريخها الاجتماعي والثقافي الغربي وموصومة، إلى ذلك، بكونها بضاعة استعمارية. على ان اكثر هؤلاء اقتناعاً بصحة هذه المقولة، لاسيما بعد ان تدفقت نفس الجماهير التي انتخبت الإخوان المسلمين المصريين لتستبدلهم بقيادة الجيش، لم يتصور تضاؤل هذا المنجز الى حد استعادة الملكية. فالعملية الجارية منذ 30 حزيران (يونيو) الماضي لإيصال المشير السيسي إلى سدة الرئاسة المصرية بإجماع لا تخدشه سوى صرخات الإخوان المسلمين الشجاعة واليائسة والاحتجاجات الواهنة لجماعات حقوق الإنسان، يصعب وصفها بغير كونها عملية تتويج لا ينقصها إلا اللقب والتاج. أما المذهل والمربك حقاً في هذا المشهد فهو إندماج غالبية المثقفين المصريين القياديين الساحقة، ليبراليين ويساريين، في هذه العملية. هنا يشكك المرء، أو يكاد، في صحة الخلاصة الرئيسة من عملية المراجعة النقدية لحتميات الماركسية الكلاسيكية في ما يتعلق بمراحل تطور المجتمعات منذ السبعينات، التي أفردت مكاناً متميزاً للإرادة البشرية في التحكم بهذه التطورات. إذا كانت مجموعات المثقفين في بلد هو الأثري من غيره بترسبات العناصر النهضوية المخصبة للتنمية الديموقراطية الممتدة من رفاعه الطهطاوي، أبرز شخصيات مبادرة الانفتاح الأول على التفاعل الإيجابي مع النموذج الأوروبي، الى نصر أبو زيد، أبرز الشخصيات المصرية تمثيلاً لخلاصات هذا التفاعل في ما يتعلق بالإصلاح الديني، تستقيل من دورها بهذه الكيفية الفاجعة، فهل يبقى من مهرب سوى الاستنتاج بأن الديموقراطية مرحلة في تطور المجتمع لا تتحقق إلا عندما تتوافر شروطها الموضوعية، ولا يمكن تقديم ميعادها بتدخل الإرادة البشرية؟ سؤال قد نتمكن من نقله من خانة الاستنكار إلى خانة الاستفهام إذا عثرنا على إجابة عنه في مراجعة الطريقة التي تعاملت بها النخب المصرية المعنية مع خيار «توريث جمال مبارك»، الذي كان مطروحاً كبديل لوالده قبل سقوط النظام في كانون الثاني (يناير) 2011، من قبل بعض الأوساط المصرية شبه الرسمية. بدلاً من اعتصار ممكنات التنمية الديموقراطية التي انطوى عليها هذا الخيار اكثر من غيره كمرحلة انتقال نحو الديموقراطية مفروضة بعدم اكتمال نضوج الظرف الموضوعي، ركزت النخب المعنية، أحزاباً وتيارات ومنظمات مجتمع مدني، جهدها على تبديد هذه الممكنات برفضه كلية والتعبئة السياسية والفكرية ضده. النتيجة الفعلية لذلك كانت إخلاء الساحة امام الخيارين الآخرين المطروحين عملياً وقتها: الإسلام السياسي ممثلاً في «الإخوان المسلمين» والجيش ممثلاً في مدير المخابرات عمر سليمان، شقي الرحى اللذين وجدت تلك النخب نفسها محشورة فيهما بعد انفجار الشارع في وجه نظام مبارك، فاختارت أسلحة الجيش والأمن لمواجهة «الإخوان المسلمين» الذين استلموا السلطتين التنفيذية والتشريعية بسلاح الديموقراطية في الجولة الأولى، وعن جدارة غير قابلة للأنكار. بمقياس احتمالات التنمية الديموقراطية مجتمعياً، الحاضنة الطبيعية والوحيدة للنظام السياسي المفتوح بأركانه المعروفة في تداول السلطة والفصل بين السلطات وحيوية المجتمع المدني، كان هذان الخياران الأكثر مرارة بين الخيارات الثلاثة المطروحة. فعلى كفاءتها الشخصية، كما بدت في قيادتها الماهرة للدور المصري في الدروب والأنفاق الفلسطينية المعقدة، كانت رئاسة عمر سليمان ستشكل امتداداً لتقاليد الانغلاق التسلطي لنظام الحكم المصري بمؤسسته الرئاسية العسكرية الأصول التي أرساها العهد الناصري. فعلى رغم أن التاريخ السياسي العربي لم ولن يشهد تطلعاً وتعلقاً شعبياً بزعيم مثل ذلك الذي تحقق لعبد الناصر، إلا أن السير الفعلي للتاريخ اللاحق اثبت استحالة الميل بالتوازن إلى الانفتاح السياسي بعد نهاية الظروف التي بررت إيقافه، إذ تكتسب الشمولية ديناميكية ذاتية الاندفاع موطدة على مصالح وعقليات وأساليب عمل متجذرة. أما الخيار الثاني، وهو مرشح للرئاسة مدعوم من أقوى أطراف المعارضة المصرية، «الإخوان المسلمين»، فيشارك الخيار الأول السلبية الكبرى التي تعتوره في ما يتصل بفرص استزراع الديموقراطية وعياً وثقافة. وبالمقارنة بكل أطراف المعارضة الأخرى، كان هؤلاء عمالقة بمعيار النفوذ النخبوي، في النقابات على سبيل المثال، والشارعي بشبكة الخدمات التي سدت الفراغ الحكومي المشغول بتنمية مجافية بنيوياً للعدالة الاجتماعية، مشكلين بذلك المنافس الانتخابي الحقيقي الوحيد لحزب مؤسسة الرئاسة الحاكم. لكنهم كانوا أقزاماً بمعيار التنمية الديموقراطيه كما دل آخر برامجهم السياسية وقتذاك، في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) 2007. فهذا البرنامج الذي بلغ من تخلفه الفكري وتناقضه مع ذلك المعيار أن تعرض للنقد حتى من قبل شخصيات إسلامية، نصّ مثلاً على عدم جواز تولي المرأة وغير المسلمين الحكم وأناط سلطة التشريع النهائية بهيئة دينية وغير منتخبة تعرض عليها القوانين قبل البرلمان. بالمقارنة بهذين الخيارين، فالميزة النسبية لرئاسة جمال مبارك من منظور التحديث الاجتماعي - الثقافي، أنها كانت ستؤدي إلى إضعاف قبضة السلطتين الرسمية الحكومية المصدر والمعنوية الإخوانية المصدر، متيحة بذلك فرصة افضل لتقوية الرافعة الرئيسية للتنمية الديموقراطية، وهي نشاطات وتكوينات المجتمع المدني السياسية وغير السياسية. بحكم تكوينه المدني تعليماً ومهنة، الابن لا ينتمي كلية إلى تقاليد وعقلية مؤسسة الرئاسة العسكرية الأصول، حتى إنه اهتم فعلياً بتجربة حزب العمال البريطاني. فضلاً عن ذلك كانت عملية توريثه مفارقة لنماذج التوريث العربي الأخرى حينذاك في سورية والعراق وليبيا، لأنها كانت ستمر عبر أنبوب اختبار مفتوح كثيراً بالمقارنة بهذه النماذج الرديئة. فتعريض بشار الأسد أو نظرائه في النموذجين العراقي (عدي أو قصي صدام حسين) والليبي (سيف الإسلام معمر القذافي أو أحد إخوانه) لأي قدر من النقد العلني كان الاستحالة بعينها، بينما كان جمال مبارك سيصبح ويمسي معرضاً لموجات نقد عارمة، مرشحاً ورئيساً. على أن هذه الميزة لم تكن محصورة في تكوينه الشخصي. فالمعروف أيضاً أن القطاع الحديث من رجال الأعمال في مجالات الخدمات والصناعة والمصارف، المكون الطبقي الأوسط والضروري كأساس للبناء الديموقراطي، كان وشيج الصلة بهذا الخيار اكثر مما بغيره. هؤلاء نتاج تعليم ومهن وتطلعات عصرية، ويتعاملون يومياً وبكثافة في كل المستويات العامة والخاصة مع العالم المتطور. وعلى رغم المزالق الشخصية والعامة الخطيرة التي يقود إليها ذلك في ظل نظام شمولي، وأهمها الفساد والانحلال الخلقي، فإن مجمل اهتماماتهم ومتطلبات حياتهم المادية والمعنوية تفرز مناخاً يحقن العقل العام بدماء جديده تساهم في إعداده كجهاز استقبال جيد لحقوق المواطنة وواجباتها الديموقراطية وحقها في مراقبة السلطة بما يحجّم الجوانب السلبية. * كاتب سوداني.