اتفق «المحللون» الأمنيون على أن اعتقال نعيم عباس وتفكيك سيارتين مفخختين في بيروت والبقاع واعتقال عدد من أعضاء شبكة إرهابية، لن يوقف ظاهرة الانتحاريين والتفجيرات المستمرة في لبنان منذ الصيف الماضي. في رأيهم أن أسباب الأعمال الإرهابية التي تضرب لبنان لم تنتهِ، وتمتد من التغييرات في المواقف الإقليمية والمفاوضات السورية في جنيف وقرب قضاء الجيش السوري على قواعد المسلحين في القرى السورية القريبة من الحدود مع لبنان، وانتهاء بحاجة قوى عدة إلى الاستمرار في تبادل الرسائل الدموية على الساحة اللبنانية المفتوحة والمكشوفة. ويتلاءم هذا الرأي مع حقيقة «اللامركزية الإرهابية» التي يتبعها كل التنظيمات المنخرطة في هذا النوع من النشاطات، بحيث لا يؤدي اكتشاف شبكة إلى انهيار كامل أجزاء المنظمة. وعليه، يمثل اعتقال نعيم عباس ومجموعته تقدماً مهماً، ولكنه محدود في مكافحة الإرهاب في لبنان. جيد. لكن الأسباب المذكورة تخفي، على ما درج هذا الصنف من التحليلات الأمنية- الاستراتيجية، مناخاً أخطر وتنطوي على تهديدات أكبر مما يعتقده مَن يدرج القبض على شبكة واحدة في سياق انتصاراته. المسألة أكثر تعقيداً من ذلك. هناك من يرغب في إخفاء واقع الانقسام السني– الشيعي الذي بلغ حد الحرب الأهلية الباردة في لبنان، والانطلاق من تجاهل هذه الحقيقة المهيمنة على نواح كثيرة من الحياة السياسية واليومية للقول إن العلاج الأمني للشبكات الإرهابية كفيل برد هذه الغائلة التي تهدد بتدمير ما تبقى من مساحة مشتركة بين اللبنانيين. لا سذاجة تفوق هذا الكلام. صحيح أن أسباباً خارجية عدة تؤثر على نشاط المجموعات التي زرعت المتفجرات في الضاحية الجنوبية والهرمل وغيرهما، إلا أن الأكثر صحة هو أن العلّة التي أطلقت هذا التفاعل المتسلسل موجودة في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانكشاف الاختلال العميق في قدرة النظام اللبناني على تسيير البلاد. جاءت الثورة السورية لتسلط الضوء على الأمراض الكامنة في علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض، ولتدفع الطائفتين الكبيرتين، السنية والشيعية، إلى مواقف أكثر جذرية وحدّة، وجاءت مشاركة «حزب الله» في القتال إلى جانب نظام بشار الأسد لتعلن طلاقاً بائناً مع الحد الأدنى من المصالح الوطنية اللبنانية وارتهاناً كاملاً لمقولات تعلي من شأن الاقتتال الأهلي والمذهبي وتقدِّمها على مقتضيات الهدنة الداخلية. سيقول قائل إن توجه شبان من الطائفة السنّية الى سورية وانضمامهم إلى قوات المعارضة لا يقل خطراً على السلم اللبناني من خطوة «حزب الله». تجاوز هذا النقاش العقيم المستمر منذ عامين عمّن سبق الآخر إلى سورية ومن يهدد أمن لبنان أكثر من غيره، يكون في توسيع زاوية الرؤية، ذلك أن الأزمة لم تبدأ مع توجه المقاتلين إلى سورية، بل مع تجريد النظام السوري وحلفائه اللبنانيين، وفي مقدمهم «حزب الله»، أكثرية اللبنانيين (التي عبرت عن نفسها في أكثر من مناسبة، ومنها انتخابات 2009 النيابية) القدرةَ على تغيير الخريطة السياسية، وجرى ذلك بواسطة العنف وبالتهويل به، وجاءت سلسلة طويلة من الاغتيالات ضد القيادات السنّية المعتدلة، من رفيق الحريري إلى محمد شطح، لتضعف هذا التيار وترفع سداً عالياً بينه وبين جمهور ما زال يراقب منذ أعوام تدهور أحواله وما يبدو كمخطط إقليمي لتهميشه وعزله، سيّان كان هذا المخطط حقيقياً أم خيالياً. وعلى جاري عادة كل قصيري النظر الذين تعاملوا مع الإرهاب، يجري التهليل لاعتقال نعيم عباس وسط كلام لا تنقصه الخِفة والسطحية عن «تجفيف منابع الإرهاب»، في وقت يصم الآذان هدير شلالات العنف والدم والقتل.