في مرحلة الانقسامات الحادّة هذه التي يشهدها معظم المجتمعات العربية، لا توجد مساحة كافية -على ما يبدو- لاحتضان الأشخاص الذين يحاولون جمع الأوصال، لا سيّما في أوساط الذين يختبرون حرباً مدمّرة إلى أقصى الحدود، وبالتالي كم سرّني أن أرى في الأخبار مجدداً وجه الأخضر الإبراهيمي الذي يبعث الارتياح في النفوس، فهو رجل لا يزال يسير على درب السلام والمصالحة، حتّى في سنّ الثمانين، بصفته المبعوث الخاص المشترك بين الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية إلى سورية، وذلك على الرغم من كل الصعاب، ووسط عدد لامتناهٍ من المشاكل والعقبات والصعوبات. كنت التقيت الأخضر الإبراهيمي المرة الأولى عندما كان سفيراً للجزائر في المملكة المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، وهو استعمل منصبه هذا، خلافاً لمعظم السفراء الآخرين الذين قدموا لندن، لتوسيع نطاق تجربته مع المجتمع البريطاني، وتعريف شريحة واسعة من مواطني البلاد بما يحصل في موطنه هو، وبالتالي قرّر المجيء إلى جامعة أوكسفورد وإلقاء خطاب في سياق ندوة كنتُ نظّمتها لمناقشة إرث الرئيس جمال عبد الناصر إثر وفاته بقليل، علماً بأنّه كان على معرفة بعبد الناصر منذ الأيام التي مثّل فيها «جبهة التحرير الوطني» في القاهرة. وهو ألقى خطاباً بقي محفوراً في الذاكرة، ليس فقط لما اشتمل عليه من معانٍ بل أيضاً لما حمله من دقّة وعناية في صياغة الكلمات. كما ميّز الإبراهيمي أمر آخر نادراً ما لوحظ لدى الشخصيات العامة، إذ أولى اهتماماً لعناصر الجيل الشاب، الذي كان يبدي رغبة في الاستماع إلى أسئلتهم ومناقشتها بالكثير من الكياسة. والآن، وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً، يبقى الأخضر الإبراهيمي شخصيّة مذهلة إلى حد كبير، فهو يستغلّ خبرته في متابعة مهمّة تكاد تكون مستحيلة، وتقضي بإيجاد أسس مشتركة ورصد رغبة في الإقدام على تنازل صغير، فيبدأ بالاجتماع بالوفدين السوريين في غرف مستقلة، ومن ثمّ يجتمع بالجميع معاً لفترة وجيزة، ويتقدّم خطوةً خطوة، ويعمل في سياق ذلك على التوجيه، ويبقى صبوراً، ويُظهر تفاؤلا وهدوءاً مستمرَّين، وسرعان ما يذكّر الجميع بأن التقدّم البطيء في نهاية المطاف قد يكون أفضل من المضي قدماً على جناح السرعة. ولا أستبعد أبداً أن يأخذ صانعو السلام المستقبليون كلماته وأفعاله بالحسبان عندما يطلقون برامج أو يحاولون استحداث مجموعة من الممارسات توجههم في سياق محاولات مماثلة تهدف إلى الجمع بين الأعداء في حالات مشحونة من مثل هذا القبيل في أماكن أخرى. وتقضي منهجيّته بالتركيز على المسائل الإجرائية أولاً، والعمل بعد ذلك على تطوير إجراءات صغيرة وموقتة، على غرار إرسال قوافل إغاثة، والإقدام على تبادل سجناء، من أجل خلق بعض الحماسة، على أمل إرساء قدر طفيف من الثقة. ولا يعني الأمر طبعاً أنه صانع السلام الوحيد على الميدان، فكذلك لا يجب أن ننسى شجاعة كل من يخاطرون بحياتهم، من رجال ونساء، لمساعدة الآخرين، بما يشمل مثلاً الأعضاء الشجعان العاملين في مؤسسة الهلال الأحمر العربي السوري، كما لا يعني الأمر أنّ نجاح الإبراهيمي حتمي، فبإمكاني القول بصفتي مراقباً للأحداث من بعد، إن عملية السلام الهشة تدهورت على ما يبدو، بل وعادت إلى نقطة الصفر تقريباً، وبالتالي بات الإبراهيمي مضطراً لمنح حكومة الأسد المزيد من التنازلات لمجرّد إقناعها بالمشاركة في جولة محادثات إضافية. لكنّ التحلّي بالأمل يفرض وجود درب بديل للمضي قدماً، ليس فقط لوضع حدّ للاقتتال بل أيضاً لمنح البلاد وشعبها الذي يتعرض لأعمال العنف، وأهم من هذا أولادها فسحة من الأمل بمستقبل أفضل. إلى ذلك، ينبغي التفكير في ما يختبره بعض الدول المجاورة لسورية، التي تفتقر بدورها إلى الأمل، مع مصر، التي يَمْثُل رئيسها السابق أمام المحكمة ولكنّه ممنوع من الكلام في قفصه الزجاجي، في حين أن قائد جيشها الفريق السيسي، الذي تمت ترقيته إلى رتبة مشير، يتحيّن اللحظة المناسبة لتسلم السلطة. وماذا عن العراق، الذي يطغى عليه شبح الطائفية المستشرية؟ وعن لبنان الذي يتأرجح على شفير المزيد من الفوضى؟ أمّا تونس، فقد حالفها الحظ، بفضل العناية المسجّلة أثناء وضع دستور جديد، وبتحفيز جزئي من الإقرار بما قد يحصل إذا اتّخذت الحكومة والأطراف الخارجية مواقف متطرّفة وإذا تعرّض المعارضون للذمّ الفوري، باعتبارهم إرهابيين، أو حتى أسوأ. ونقول أيضاً إن الحظ حالف اليمن، حيث يشكّل إرساء مؤتمر الحوار الوطني محاولة إيجابية للجمع بين أهم المشاركين السياسيين حول اتفاق على مجموعة واسعة من المبادئ التي تشكل أساساً لدستور جديد. صحيح أن المؤتمر اضطر إلى تخطّي جدوله الزمني الأساسي بأربعة أشهر، وصحيح أيضاً أن أموراً كثيرة قد لا تسير على ما يرام، بما يشمل المشاكل الناتجة عن الكثير من المجموعات المهمّشة، التي لا تحظى بتمثيل مناسب في المفاوضات، لكن «كثرة الكلام خير من اشتداد الحرب، كما لاحظ ونستون تشرشل. وثمّة سبب لاعتبار الشرق الأوسط «مقبرة» للذين حاولوا صنع السلام، حتّى أنّ معنى التعبير كان حرفياً في بعض الأحيان، كما حصل في حالة الكونت برنادوت، الذي اغتاله تنظيم «شتيرن» الصهيوني في فلسطين في العام 1948. إلى ذلك، تعرّض آخرون لإطلاق نار من طرف أو آخر، فيما حاولوا مراقبة عمليات وقف إطلاق نار هشة أو عمليّة ترسيم حدود في أعقاب اتفاقية هدنة أو أخرى برعاية الأممالمتحدة، وبالتالي تُعتبَر مهمتهم خطيرة، ولكنها حتماً بالغة الأهمّية، وعلينا أن نحيّيهم لأنهم يُقدِمون عليها. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد