إذا كنا انتظرنا من الكاتبة السعودية في بداية عنفوان الكتابة الروائية والسردية أن تفتح مناطق للكتابة لا تترصد السائد، وتتنكب كل طريق يفضي إليه أو يرتبط به، فإن ما حصل هو هذا تماماً، فروح التحدي والتمرد والرغبة الجامحة في التعبير عن الذات، وعن عالمها السري والمكبوت خلف تخوم الحياة اليومية، وخلف الحجب التي تتغطى بها أحداث تلك الحياة، هي ما يشكل الرافعة التي تنهض فوقها الرؤية للعالم والحياة والإنسان التي تخترقها تلك الكتابة الروائية النسائية. إذا كنا رأينا كل ذلك في المنجز الروائي السعودي، فإن نصيب الشعر أصبح لا يقل انفتاحاً على مثل هذه المناطق، ومن جانب الصوت النسائي أيضاً. هذا ما وجدته في صوت شعري نسائي، يأتي ضمن الموجة التي تكتب القصيدة الحديثة بتقنيات مفتوحة على كل المؤثرات التي تأتيها من تنوع الفنون المختلفة. هذا الصوت يتمثل في مجموعة هيفاء العيد الشعرية الصادرة عن منشورات ضفاف لعام 2014، بعنوان: «أنا ما أخفيه». للوهلة الأولى تفاجئك قصيدتها، لا من حيث كثافة التعبير التي تقود كلماتها إلى داخل جملها الشعرية، ولا إلى توتر المخيلة عندها بين صعود وهبوط على مدرج مطارها، بل تفاجئك بالانتفاضة التي تهز كيانك من العمق، انتفاضة أشبه ما تكون بتعرض جسد أحدهم بماس كهربائي ذات تردد عال. فالثورة على الجسد وعلى حراسه والبحث في الداخل عن المرأة الشريرة، والذهاب إلى أقصى ملذات الخطيئة، وتحويل القبح إلى جماليات داخل اللغة، هي التي تنتصب أمامك، حين تدخل عالمها، تنتصب مثل رمح، لا تكاد تلمس شفرته، حتى تجرحك من فرط حدته، وكأن الجرح كلماتها التي ترميك بها مثل حجارة. تقول في نص: « في رأسي امرأة / تسقط دفعة واحدة / كأول الماء/ تستل لغة من غمد لا مألوف / تفزع الليل / تجرح وجه القصيدة / وتعانق كل رجال الأرض». لا ينجو شيء من محاولات الانفلات التي تصنعها قصيدتها، وفي كل محاولة لا تقول ما ينبغي أن تقوله خارجها، حدود الداخل عندها المعنى العميق للانفلات الذي تنشده وتحاول تأثيثه بالصراخ في وجه الهواء باعتباره رئة القصيدة التي تتنفسها، ولا شيء غيرها. لذلك حين تضع الجسد موضع التمرد لا تكف لغتها في توليد صور متعددة حول هذا الموضع، في دلالات مختلفة من التركيب الأسلوبي والمجازي، مرة نراه خصب المخيلة ومرات أخرى نراه مجهض الجناحين، يحلق مرة ويسقط في النثرية الزائدة غير المشدودة إلى نفسها مرات أخرى. تقول: «أنحت من لحمي امرأة قبح ثائرة / أفتح كل مساء قناني الملح في عيون ورق عابث / وأفرد شعري الطويل الأسمر معبراً للفتنة». أو «مطعونة بالخوف / ومثقلة الحاجة / أشيخ بوجهي نحو يدي / أشير للكلمة أن أطلقي سراح النوايا». هنا تستريح المخيلة، ولا تعمل كما يجب، الإحساس بالرعب والخوف يلهي، ويفضي الخدر أو التواري خلف سياق الجملة الشعرية. أنا هنا لا أبرر، لكن المخيلة في كل الأحوال تحتاج إلى فراغات بين قصيدة وأخرى تستريح فيها من الركض والجري واللهاث، هي بالتأكيد تتعب، وكل قصيدة في داخلها محطات استراحة، وفي الوقت ذاته مصيدة، والاختبار ألا تقع في تلك المصيدة حال استراحتها، على القصيدة أن تدفعها للتحليق مرة أخرى، أقول هذا الكلام لأننا نصادف نصوصاً محلقة أخرى في السياق ذاته، خصوصاً أن مجموعة هيفاء لم تعنون قصائدها، لقد تركت مفتوحة حتى لا تصطدم المخيلة بها ثم تقع، لنقرأ المقاطع الآتية ليتأكد لنا ذلك: «وتلك الشجرة / تبكي اخضرارها الفاضح / وظلها ال يسع جيش العابرين/ لا يقطف ثمارها أحد». أو «في رأسي / تنام امرأة بشعة / كلما استيقظت / تهرب من صدري طفلة / تركض مذعورة / كأني بيت مهجور». أو «نكاية بالعمر/ استهلكني». أو «من صدري تطير القصيدة / تحط فوق شفاهي/ حمامة بيضاء خائفة». أو «لماذا / كلما تكدست في عيني / قطعان الذئاب / فارت الخمر / في قناني العبارة؟». هنا الجمل الشعرية خاطفة وسريعة، المجاز فيها ينتقي ولا يتوقف ولا يحتار، يضرب ضربته ثم يمضي إلى جملة أخرى، وكأن القصيدة تقول رعبها وتمردها من خلال مجاز اللغة فقط، من دون أن يصحب مثل هذا التمرد الضجيج والصراخ المعهود، تتسلل القصيدة ولا شيء سوى الهدوء التام بعد ذلك. لكن ثمة شيء آخر، تقوله قصيدة هيفاء، إنها تقترب ما كنت أسميه دائماً الوعي الكتابي لحظة الكتابة، لحظة الذات حين تمتلئ بتفاصيلها وتسميه أو تتخذ موقفا إزاءه عبر روافع الكتابة، أي تكون هناك وشائج بين الكتابة من جهة وبين القصيدة وذات المبدع من جهة أخرى. تأمل معي هذا النص الخاطف «أنا لا أكتب / أنا أحاول مواجهة كل ذاك الحشد الكافر من الأحلام / أن أشارك الملائكة لذة تدوين السيئات» أو «في الكتابة / واجبي الوحيد إزاء حاجتي / لا إزاءك». لا شيء يشير سوى إلى تفتح الكاتبة على رؤية للكتابة لا ترتبط بالسائد قدر ارتباطها بالحياة وما تنتجه من ضرورات، تتصل بالجسد والروح، وذلك في حدود هذه الحياة الخاصة. لذلك الكتابة مفصلة على مقدار الحياة، وهذا أحد الشروط التي تتأسس من خلالها مشروطية الوعي بالكتابة، والمثابرة على تحقيق ذلك لا يأتي إلا من خلال اكتساب الخبرة والتجربة، وهذا محكوم بذاك. في نهاية تطوافي هنا، كنت حذراً جداً، في الحديث عن مسألة التجنيس أو التصنيف، هل ما تكتبه هيفاء قصيدة نثر أم نص مفتوح أم يدخل ضمن تصانيف القصة القصيرة جداً؟ لا شك سؤال مشروع، لكن في مثل هذه القراءات، لا تطلب من الكاتب أو الكاتبة خصوصاً في بداية تجاربهم الوعي بمسألة التجنيس أو الشكل، مع تراكم التجربة على المبدع أن يعي ذلك تماماً، لا لشيء فقط لإثراء تجربته لا حقاً. * ناقد وشاعر سعودي.