لم تتسبب الأحداث في سورية فقط في «انفجار هائل» للوضع الطائفي في منطقة كانت صواعق الانفجار موزعة فيها هنا وهناك، ولكنها جاءت أيضاً ب «مفارقات فكرية»، تُعد «سابقة في ميادين الجهاد الإسلامي». ولعل أبرزها تحول الخصومة من «خصومة الطعن في العدو والإثخان فيه» إلى «الطعن في الظهر من جانب شركاء المشروع الجهادي الواحد»، ما أوجد مفترق طرق تمر به هذه الجماعات، وعلى رأسها تنظيم «القاعدة»، وهو الأبرز والأوسع انتشاراً، وما ينبئ ب «هزة عنيفة» تهدد قاعدتها الجماهيرية، قد تتسبب في التأثير في حجم قواعدها الشعبية، عبر فقدان الثقة فيها. فمنذ أحداث ال11 من أيلول (سبتمبر)، و «القاعدة» يواجه «هجمة إعلامية شرسة». هدفت إلى «تشويه سمعة المنتمين له»، ومحاولة التشديد على أن منهجهم «مخالف للشريعة الإسلامية». ولقي هذا الهجوم رواجاً بين متلقي المادة الإعلامية، كمتابعين غير منتمين إلى هذه الجماعة، أو قريبين منها فكرياً. وهذا الأمر، وإن عد «نجاحاً»، إلا أنه نجاح في دائرة بشرية يُخشى عليها التأثر بهذا الفكر. لكنه لم يستطع أن يحدث اختراقاً ذا أهمية في «الحصون الرصينة» للجماعات الدينية التي كانت تتعاطف مع «القاعدة». إما بسبب خوضه «منازلات ميدانية» مع أميركا، أو بسبب خطابه الذي كان يُبشر بنصرة القضية الفلسطينية بالقوة، وليس عبر الاتفاقات والمعاهدات. وظل الحال هكذا حتى بعد العمليات «الإرهابية» التي اجتاحت السعودية منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، إذ واصلت ماكينة الحملة الإعلامية العمل في شكل مكثف ومتواصل. وبرز إلى جوار ذلك خطاب ديني يمارس نقد الخطاب ذاته الذي يتبناه «القاعدة»، من خلال مجموعة من الدعاة والمشايخ. إلا أن هذه الأصوات لم تزعزع قاعدتهم الجماهيرية، بحكم أنها في الأساس بعيدة من «الطرح الجهادي» الذي يفصل جمهوره بين «منظري العمل الدعوي العلمي» من جهة، وبين «مشايخ الثغور». في بدايات أحداث سورية التي اندلعت في آذار (مارس) 2011، توارت وسائل الإعلام خلف عناوين من قبيل «الحرية ومحاربة الاستبداد ونصرة المظلوم»، محاولة طمس فكرة وجود فصائل مسلحة، تحمل فكراً متطرفاً تجاه المكونات السورية المختلفة عنها. وكانت الأخبار التي تُنشر في هذا الخصوص «خجولة». إلا أن دخول «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وهي الفرع الرئيس من تنظيم «القاعدة»، ساحة الأحداث في سورية، أعاد موجة الخطاب الإعلامي القديم المحذر من «القاعدة»، والعمل على تسليط الأضواء على أخطائها، سواءً تجاه المواطنين السوريين، أو بين الفصائل مع بعضها. إلا أن القتال الذي وقع أخيراً بين ممثل «القاعدة الأم» في العراق (داعش) وبين «جبهة النصرة» التي قام «داعش» بإرسالها إلى سورية، أظهر خطاباً جديداً. وهو نقد داعمي ومنظري «ساحات الجهاد» لفصيل جهادي وصل إلى مرحلة «التنفير» من الانضمام إلى «راية الدولة الإسلامية»، والحديث علناً عن أخطائها، في سابقة تشبه في مضمونها حال «العصيان» التي أعلن عنها أمير «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي، لأمر ولي أمره (زعيم التنظيم الدولي) أيمن الظواهري، بضرورة خروجه من سورية، وحصر عمله في ساحة العراق فقط. وكانت أقوى الضربات «القاصمة»، ما صرح به منظر التيار السلفي الجهادي عصام البرقاوي، الشهير ب «أبي محمد المقدسي»، في رسالة منسوبة إليه من سجنه في الأردن. وذكر فيها أنه وصلته «أخبار الفتنة بالشام»، وأنه بذل من أجلها «جهداً كبيراً لإنهاء الاحتقان والتحزب». واعتبر أن ما يجري على وجه الخصوص من «داعش»، «توجيه بوصلة القتال من الإثخان في أعداء الله والمجرمين... إلى قتال بعضنا بعضاً»، معتبراً «الفتاوى المتعلقة بجواز الاقتتال بين المسلمين، عبر أعمال التفجير واستهداف مقار المجاهدين، هي حماقة وتغرير لا يصدر من عالم»، مستنكراً في الوقت ذاته، «الفتاوى التي تجيز قتال من لا يبايع الدولة، واعتبارها بيعة إمارة كبرى». ولم ينضب نهر الفتاوى الأردني المناهض ل «داعش»، إذ ذكر مُنظر آخر من مُنظري «السلفية الجهادية»، وهو عمر محمود عثمان، الملقب ب «أبو قتادة»، خلال الجلسة الثالثة لمحاكمته في الأردن، أن «الواجب الشرعي يحتم على أبو بكر البغدادي أن يسحب رجاله، وينضوي في العمل تحت مسمى «جبهة النصرة»، داعياً الجماعات الجهادية، وعلى رأسها «داعش»، إلى «إطلاق سراح جميع الأسرى لديها، وعدم قتل أي شخص مسلم، أو غير مسلم، ما لم يحمل السلاح في وجهها». على المستوى السعودي، ذكر الداعية الشيخ سليمان العلوان الذي يحظى بالتقدير لدى الفصائل المقاتلة في سورية، أنه «ليس من حق الدولة الإسلامية (داعش) أن تُغير وتستهدف مقار الأحرار (أحرار الشام)، لأنها صارت ملكاً لهم. لأن من أتى إلى مكان، وحازه صار أولى به من غيره»، مشدداً على اعتراضه على الدولة كونهم «يأخذون البيعة لأنفسهم، وهم ليس لهم بيعة عامة، كون من شروط البيعة أن ينتخبه أهل الحل والعقد، في حين أن أبو بكر لم ينتخبه أهل الحل والعقد». وأشار العلوان إلى أن «مسؤوله وقائده (أيمن الظواهري) لم يرضَ عن عمله، فكيف يطالب الآخرين بمبايعته، فهو ليس خليفة المسلمين حتى يفعل الأفاعيل. فهو لا يعدو أن يكون أمير جماعة، شأنه شأن أمراء الجماعات»، متطرقاً إلى «طلبه البيعة من الآخرين، فإذا لم يبايعوا قاتلهم»، معتبراً هذا «عمل البغاة، وليس من عمل أهل الخير والصلاح». فيما أفتى داعية سعودي آخر، هو عبدالعزيز الطريفي، ب «عدم جواز الانضواء تحت راية «الدولة الإسلامية» (داعش)، ما دام لا يقبل بحكم الله المستقل عنه»، مطالباً المنضوين تحتها ب «الانشقاق والذهاب إلى رايات أخرى». ومن أرض الميدان، جاءت كلمة «الفصل» من أحد أبرز داعمي المقاتلين في سورية، وهو الداعية الكويتي حجاج العجمي الذي دوّن في تغريدة على حسابه في شبكة التواصل الاجتماعي «تويتر»: «لست مع دولة العراق والشام وكل الجلسات التي كانت معه لم تكن سوى نصح وتقويم. ولم أكن داعماً له أو لأي طرف يقاتل الشعب السوري». وكان هذا الاتهام المباشر بمقاتلة الشعب السوري، «مصدر قلق لكل المتعاطفين والمتعلقين بمنهج داعش». حتى الشاعر عبدالرحمن العشماوي الذي عرف بأنه «مُسعر حروب الجهاديين» منذ أيام أفغانستان، عبر أشعاره وقصائده، اشترك في التحذير من «داعش» عبر قصيدة نشرها أخيراً، في عنوان «كم داعش في أمتي»، ويقول فيها: «وأنا أرى في شامنا المحبوب قوماً.. يستمرئون الغدر فينا والشقاقا، سرقوا مفاتيح الوفاق وأتلفوها... ورموا برشاش المؤامرة الوفاقا، من أين جاء المرجفون وكيف جاؤوا.. متوشحين الغدر واخترقوا اختراقا، جاؤوا رفاقاً في مظاهرهم فلما... دخلوا مرابع شامنا قتلوا الرفاقا». ويبقى السؤال: هل ما يتعرض له الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، وهو ممثل «القاعدة»، من فتاوى ومواقف علماء ومنظري «السلفية الجهادية»، سيتسبب في انصراف الأتباع عن تأييده ودعمه في معركته الفاصلة في سورية، أم إن تاريخ «القاعدة» الجهادي منذ ثمانينات القرن الماضي، سيحول دون وقوع هذا الأمر؟ وهل ما يجري من نقد لاذع ل «داعش» الآن، وعصيان أبو بكر البغدادي العلني أوامر أمير التنظيم الدولي أمين الظواهري، هو مؤشر تآكل فعلي ل «قاعدة الجهاد» أم هي سحابة صيف وستزول؟