انتهى العام اللبناني 2013 باغتيال رمز سياسي وديبلوماسي يحمل زبدة فريق 14 آذار من أفكار ومبادرات. على الأثر اندفع قادة هذا الفريق إلى التلويح بمقاومة مدنية، ف «ما كان قبل اغتيال محمد شطح لن يكون بعده». بلغ التوتر السياسي ذروة جديدة مع انسداد أفق الوضع الداخلي بمتاريس الحرب السورية: فريق الشهيد شطح لا يرى مخرجاً إلا بانسحاب حزب الله من سورية، وفريق حزب الله يبحث عن ترجمة لبنانية لصمود محور المقاومة والممانعة في تشكيلة حكومية تضمن له الثلث المعطل واستمرار العمل بثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»... في سورية. كان مؤتمر جنيف2 يقترب، يسبقه موعدان حساسان لبنانياًوإيرانياً ودولياً: انطلاق المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في 16 كانون الثاني (يناير) وبدء تنفيذ الاتفاق الدولي بشأن الملف النووي الإيراني في العشرين منه. فجأة، سرت دماء جديدة في عروق الأزمة اللبنانية المستحكمة. قيل إن حزب الله تخلى عن شرط الثلث المعطل في الحكومة، وإنه مستعد لإبداء مرونة في صيغة البيان الوزاري اللاحق ليقترب مرة أخرى من تبني إعلان بعبدا الخاص بتحييد لبنان عن الحالة السورية، على رغم إحالته في وقت سابق هذا الإعلان على التقاعد. وسارع رئيس تيار «المستقبل» الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري إلى ملاقاة الأجواء الجديدة، مرحباً بحكومة «ربط نزاع» تجمعه مع حزب الله. أعلن موقفه في ختام الجلسة الأولى للمحكمة الدولية، ثم فصله في وقت لاحق في حوار متلفز. وبدا في لحظة ما أن ما يشهده اللبنانيون المتشككون أكبر من أن يتصوره عقل: هل قرر طرفا النزاع الأساسيان في لبنان الولوج إلى مرحلة جديدة مختلفة؟ الخلافات السياسية القائمة بين الأحزاب والأطراف والطوائف اللبنانية ليست قليلة الأهمية، لكن ما بدأ يرتسم في عمق هذه الخلافات من صراع مذهبي سني– شيعي، بات يشكل تهديداً حقيقياً للأمن الأهلي اللبناني ولمستقبل البلد على مختلف الصعد، وخطورة هذا الصراع تتأتى من كونه يرتبط بصراع أوسع على مستوى المنطقة يتجذر في سورية ويتفاقم في العراق وينشر روائحه الكريهة على امتداد المشرق العربي. كانت ملامح التهدئة بين الفريقين في لبنان أجمل من أن تصدق، فهي خطوة عكس السير في المنطقة الملتهبة، وعودة إلى الالتزام بثوابت البناء الوطني اللبناني يمكنها أن تؤسس للدفع مرة أخرى نحو إرساء توافقات داخلية تعزز دور المؤسسات تحت سقف الدستور، وتمنع تحول البلد إلى ساحة تتلقى انفجارات المنطقة. وقيل الكثير في الكواليس عن سر التحول في موقف حزب الله وفي موقف الحريري. واجتهد البعض فرأى أن استمرار الحرب في سورية من دون رابح وخاسر كان سبباً كافياً لفرض انكفاء أطراف لبنانية مشاركة في الصراع إلى الداخل. وقال آخرون إن إيران التي تقدم نفسها شريكاً في معالجة أزمات المنطقة عملت على التهدئة لتقديم أوراق اعتمادها إلى مؤتمر جنيف السوري... وأضاف غيرهم الحاجة الإيرانية إلى إثبات حسن نواياها عشية بدء تنفيذ اتفاقها النووي مع الدول العظمى. وفي المقابل، كانت المملكة العربية السعودية تؤكد حرصها على «تفاهم وطني» في لبنان، وعلى دعم المؤسسات الرسمية فيه، وجاءت المعونة المادية الضخمة المقدمة إلى الجيش اللبناني لتشير إلى وجهة الاهتمام السعودي في السعي إلى استقرار لبنان ومحاربة الأخطار الداخلية والخارجية والإرهابية التي تتهدده، عبر دعم المؤسسة الأمنية الشرعية. مهما اختلفت التفسيرات، كان لبنان للمرة الأولى منذ اتفاق الدوحة أمام فرصة «ذهبية» تفتح الطريق أمام مرحلة اختبار تتوَّج، إذا حسنت النيات، بتشكيل الحكومة أولاً، ثم بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبعده الإسراع في إجراء انتخابات نيابية. إلا أن العملية كلها تعثرت، ولن يصدق أحد أن المداورة في المناصب الوزارية هي سبب هذا التعثر، وعادت الاجتهادات والتفسيرات السابقة لتحضر في تحليل الخلفيات بعدما حضرت في تفسير «انفراجات» مطلع العام. قيل إن إيران عدلت موقفها من التسهيل إلى العرقلة، لأنها استبعدت عن مؤتمر جنيف-2، وقيل إنه لا بد من الانتظار حتى استئناف المؤتمر السوري في العاشر من شباط (فبراير) الجاري لمعرفة ما إذا كانت طهران ستدعى إلى المشاركة، وعندها يتم تخطي «مؤامرة المداورة» وتولد الحكومة اللبنانية العتيدة، وسيقال المزيد في الأيام الآتية، إلا أن سؤالاً ملحاً سيبقى مطروحاً في رؤوس اللبنانيين المرهقين في الأمن والتوتر والمعيشة، وفي تحملهم أعباء المليون ونصف المليون نازح من سورية، وهو: أليس الأجدى اغتنام الفرصة التي أطلقها سعد الحريري استناداً إلى «تحول في مكان ما» في موقف حزب الله، والسير في اختبار مرحلي لا مفر منه لاستعادة الأمل بدولة لبنانية يحتاجها الجميع؟ هنا يكمن جوهر الموضوع، وليس في الحصص الوزارية. والأمل معقود على أن لا تكون فرصة تقارب بين فئتين أساسيتين مدعوتين إلى الصدام القاتل قد ضاعت مرة أخرى، وأن يعي الآخرون، وفي مقدمهم المسيحيون، أن دورهم في هذه المرحلة أكبر بكثير من حقيبة. إنه في مقدرتهم على تقريب المسافات وحصر الأضرار. هنا دورهم وموقعهم في مستقبل بلدهم. * صحافي من أسرة «الحياة»