هو أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي ينتسب إلى الشجرة النبوية الكريمة، مفسر، ومحدث، وفقيه، وأديب، وشاعر، ولد في محلة الكرخ ببغداد في 14 شعبان 1217ه/ 10 كانون الثاني (يناير) 1802م في بيت علم، فأبوه السيد بهاء الدين عبدالله واحد من كبار علماء بغداد، بيته كعبة للعلماء والطلاب، ومدرس بمدرسة جامع أبي حنيفة النعمان. تلقى على يديه الكثير من علوم الدين واللغة والأدب، حتى وافته المنية بالطاعون عام 1246ه/ 1830م. والآلوسي من أسرة عراقية اشتهرت بالعلم والمعرفة، وبمن أنجبت من العلماء والفضلاء والأدباء، تمتعت بمنزلة رفيعة، وتقدير عظيم، لمكانة أبنائها، واشتغالهم بالعلم، وتصدرهم للدرس والإفتاء والقضاء في بغداد. يرجع نسبها إلى «آلوس» أو «آلوسة»، وهي بلدة على الفرات قرب عانة، بمحافظة الأنبار غرب العراق، حيث فرّ إليها جد هذه الأسرة من وجه المغول، عندما داهموا بغداد 656ه/ 1258م بقيادة هولاكو. تمتد بنسبها إلى سبط الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فهي عائلة علوية النسب، آلوسية الموطن، بغدادية السكن، ضليعة في الأدب، عُدّ الآلوسي عمادها ودُرّة تاجها. في هذا البيت العلمي نشأ أبو الثناء، وسمت نفسه إلى طلب العلم وتحصيله، فعني والده بتربيته وتنشئته، على ما يُنشأ عليه طلاب العلم في زمانه، فلقنه علوم اللغة العربية: نحواً وبلاغة واشتقاقاً وعروضاً، وبدأ حفظ القرآن الكريم منذ صغره، وظهر عليه النبوغ في سن مبكرة، فحفظ الأجرومية في النحو، وألفية ابن مالك، ومنظومة الرحبية في علم الفرائض، وقرأ على أبيه الفقه الحنفي والشافعي، وأحاط ببعض الرسائل في المنطق، والتفسير والحديث، وحفظ كل هذه المتون قبل أن يبلغ الرابعة عشرة من عمره. وكان أبو الثناء، يدرِّس في مدرسة خاله الحاج عبدالفتاح الراوي، الذي كان يهمل شؤونها، فلما انتقل إلى مدرسة الحاج نعمان الباجة جي سعى إلى نقل تلاميذه إليها، إذ كانت مُجهزة بكل ما يلزم لضمان راحة المتعلمين، ونتيجة لذلك، حدثت وشاية بينه وبين خاله، فثارت ثائرة الأخير، وشن حمله شعواء على ابن أخته، شايعه فيها أولاده وأتباعه، ومضى أقارب أبي الثناء في خصومته، فحاولوا أن يوغروا صدر داود باشا والي بغداد (1817 - 1831) عليه، ولكنه لم يصدِّق وشايتهم، بل كان ينظر بعين الارتياح إلى تفوق الآلوسي. لذا، أبقاه في منصب التدريس. ومع ذلك، لم يطمئن الحاج أمين الباجة جي، إلى بقاء أبي الثناء في مدرسة أخيه الحاج نعمان، وهو منْ عرف أدب أبي الثناء وعلمه وفضله، فطلب إليه أن يترك التدريس بها، وذكر أنه قائم بإنشاء مسجد ومدرسة، ويطلبه خطيباً وواعظاً في مسجده، ومدرساً في مدرسته، ووعده بأن يدفع مرتبه فترة انتظاره إكمال البناء، وبالفعل وفى بوعوده، فتحسنت حالة أبي الثناء، وسمت منزلته، فأصبح «أمير البيان بحر العلوم العقلية والنقلية، المفسر المحدث الفقيه الأصولي، المتكلم النظام المحجاج، المؤرخ، مفتي بغداد». «آية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام». تلقى العلم على عدد من المدرسين والعلماء لعبوا أدواراً خطيرة في تاريخ العراق منهم: خالد النقشبندي، شيخ الطريقة النقشبندية، والشيخ عبدالعزيز الشواف، والعلامة أمين الحلي، والشيخ السلفي المحدث علي السويدي، وأخذ علم التفسير وجميع العلوم العقلية والنقلية عن الشيخ محمد العمادي، والعالم الأديب علاء الدين الموصلي الذي لازمه أربعة عشر عاماً تقريباً، وكانت خاتمة إجازته على يديه، كما سبق الذكر، وقال عنه: «لم أزل عنده، أستنشق شيحه ورنده، إلى أن تخرجت به وتأدبت بأدبه»، وقد استجاز هؤلاء، وغيرهم من علماء بيروتودمشق منهم محدث دمشق الشيخ محمد بن عبدالرحمن الكزبري، ومفتي بيروت الشيخ عبداللطيف، وكان الحصول على إجازة العالم الجليل الكزبري (ت 1220ه/ 1805م) أمراً يفتخر به علماء ذلك العهد، في علوم اللغة والأدب والفقه والحديث، وكان لتلقيه العلم على هؤلاء العلماء تأثير كبير في تكوينه السياسي، حتى إنه يمكن القول: إن مواقفه السياسية كانت امتداداً لاتجاهات بعض أساتذته. وحين بلغ أبو الثناء الآلوسي العقد الثالث من عمره أصبح مدرساً في مدارس عدة. وقصد إليه العلماء والفقهاء من سائر أقطار المعمورة، وكان له مجلس حافل في محلة العاقولية بالرصافة، يرده طالبو العلم والمعرفة، منهم: الشيخ عبدالباقي العمري، والشاعر عبدالغفار الأخرس، من نوابغ الشعراء، (ت 1290ه/ 1873م)، والخطاط أحمد أفندي القايمقجي، وقد حفظ كتاب حديقة الورود للشيخ عبدالفتاح الشواف، أديب، ناثر، ناظم، مؤرخ، (ت 1262ه/ 1846م) أخبار هذا المجلس. وانتعشت الحركة العلمية والأدبية كثيراً في بغداد بفضل الآلوسي، حتى إن محمد رجب البيومي، في كتابه النهضة العلمية في سير أعلامها المعاصرين (دمشق: دار القلم، 1995، ص 33) استدل بوجوده في القرن التاسع عشر على أن النهضة العلمية في العراق ترجع إلى ذلك القرن، لا إلى القرن العشرين، كما ادعى البعض، ذلك أن البيئة العلمية في ذلك العصر، «مهما قيل عنها، كانت تسمح بوجود عملاق كبير، أدى دوره الفكري أحسن أداء»، بل إنه يذهب إلى أن «الاستشهاد بالإمام الآلوسي في هذا المجال كافٍ لمنع اللجاج الصاخب حول ابتداء النهضة العلمية بوادي الرافدين». وله كتاب: الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية، يحتوي على إجابة عن ثلاثين مسألة وردت من إيران في التفسير واللغة والفقه والعقائد والمنطق وعلم الفلك، وغير ذلك. وكتاب: الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللأهورية، ذبَّ فيه عن أصحاب النبي، طبع في بغداد عام 1301ه/ 1883م. وكتاب: غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب، ذكر فيه خبر رحلته إلى اسطنبول، طبع في بغداد عام 1317ه/ 1899م. وله كتابان آخران مطبوعان عن رحلته: نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول، ونشوة المدام في العودة إلى دار السلام. وتصل مؤلفاته إلى حوالى اثنين وعشرين كتابًا، ما بين المطبوع والمخطوط والمفقود، تميزت جميعها «بالإحاطة والعمق، واستقلال الفكر وحريته، مع روعة البيان، وحسن الافتنان في صوغ معانيه وأفكاره». كما كتب أبو الثناء المقامات، والتي تمثل النثر القديم بأبهى أشكاله، في حديث أدبي بليغ يوجه في شكل مباشر على نحو خطابي. ويذهب الدكتور شوقي ضيف في كتاب المقامة (القاهرة: دار المعارف، 1954، ص 78) إلى أنه من أشهر من قلدوا الحريري في تأليف المقامات. كما أن له آثاراً شعرية، إلا إنه ليس له ديوان مطبوع، وفي مجموعة عبدالغفار الأخرس، شيء من شعره. وعلى رغم تقلده الإفتاء على المذهب الحنفي، إلا أنه كان سلفيّ الاعتقاد، متأثراً بدعوة محمد بن عبدالوهاب ذات الأثر الواضح في إحياء الدعوة السلفية، وكان لها التأثير الكبير في أرجاء العالم الإسلامي والعراق، ولعله في ذلك امتداد لأستاذه الشيخ علي السويدي الذي تمكن من إقناع الوالي سليمان باشا الصغير (1807 - 1810) بقبول اتباع أحكام الدعوة السلفية من دون المجاهرة بذلك، خوفاً من الدولة العثمانية التي حذرت من أثر هذه الدعوة على البلاد العربية، فسخرت العلماء للرد عليها، وعلى محمد بن عبدالوهاب، والطعن فيه. هكذا، ساءت أحوال أبو الثناء، وبلغ من العسر حتى باع كتبه، وأثاث بيته، وعاش بثمنها مدة من الزمن، حتى كاد يأكل «الحصير»، ويشرب عليه «مداد التفسير»، فلم يجد بُداً من السفر إلى الأستانة، استجابة لدعوة السلطان عبدالمجيد الثاني (1842 - 1918) لحضور حفل ختان ولديه عام 1267ه/ 1851م لعرض أمره على الباب العالي، ليعمل على رفع الحيف الذي وقع عليه، نتيجة إرسال نجيب باشا رسالة اعتذاره عن حضور الحفل المذكور، والتي كتبها تحت ضغط منه، من طريق «الباليوز الإفرنساوي»، وكان قد أتم تفسيره، فأخذه معه، والتقى شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت، واقف المكتبة العظمى في المدينةالمنورة، فأعرض عنه بسبب ما بلغه عنه من وشاية الواشين وحسد الحاسدين، ولكنه استطاع أن يحمل شيخ الإسلام على تغيير موقفه، إذ لم يطل الوقت حتى دارت بين الاثنين مناقشات ومناظرات علمية أوقفت كلاً منهما على فضل صاحبه فتفاهما وأجاز أحدهما الآخر. ونُقل أبو الثناء إلى دار الضيافة السلطانية، ثم عُرض أمره على الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا، وزار الباب العالي فأكرمه السلطان، وأنعم عليه بخمسة وعشرين ألف قرش اسطنبولي، وله مثلها كل عام، ومنحه شيخ الإسلام خمسين ألف قرش من ماله الخاص، وعرض عليه قضاء أرضروم، فأباه، وهكذا تحسّنت حال أبو الثناء، وعاد إلى بغداد بعد أن غاب عنها قرابة سنتين، وكتب رحلته هذه في كتاب «غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب»، وفي كتابين آخرين سجل فيهما رحلة الذهاب والإياب: «نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول»، «نشوة المدام في العودة إلى دار السلام». وكان خطاطاً بارعاً دوّن وخط معظم كتبه بخطه الحسن، «كاللؤلؤ والمرجان أو العقود في أجياد الحسان، قلده فيه كثير من الرجال فلم يجِدْه مثله بحال»، كما نسخ كتباً لغيره. وقد أخذ إجازة الخط من الخطاط سيفان الوهبي، أحد أشهر الخطاطين في بغداد. وفي أثناء رجوعه من اسطنبول إلى بغداد، اعترته الحُمَّى، وظلت تعاوده بين الحين والآخر، حتَّى نحل جسمُه، وحضرته الوفاة يوم الجمعة 25 ذي القعدة 1270ه/ 20 آب (أغسطس) 1854م، ودفن في مقبرة الشيخ معروف الكرخي.