يحدثك منتقداً بعض الدعاة بأنهم عجلون يسارعون إلى محاولة تغيير الناس عسفاً وقسراً، وأنهم يتجاهلون سُنّة التدرج في التشريع التي تقتضيها طبيعة البشر، ويحدثك ساخطاً على قسوة وإغلاظ بعض الدعاة في الإنكار على الناس بأسلوب منفر! ثم تفجؤك الأيام بأن محدثك هذا من أغلظ الناس خطاباً وأحدّهم لساناً على مناهضي التجديد والتغيير من الدعاة وغيرهم، ينالهم بأسلوب مستفز، هو للتشفي وانتهاز الفرصة للوقيعة أقرب منه للإصلاح وتغيير طرائق التفكير والإقناع. ليس ببعيد أنه يفرح بهذه المواقف لينتهزها فرصةً للنيل والإسقاط! هو يرى أن انتقاده لقسوة أولئك واستعجالهم إصلاح الناس محسوب من الإصلاح، ويرى أن خطابه معهم خطاب إصلاحي، فلماذا إذاً لا يأخذ معهم بالرفق واللين، والتدرج في تغييرهم وطرائق تفكيرهم؟! قد يجهل أن الحذر والارتياب من كل جديد الذي قد يصل أحياناً إلى محاربته والتحذير منه ليس خصوصية سعودية أو إسلامية، ففي الدول المتقدمة كانت شرائح من مجتمعاتها في أول زمن الثورة الصناعية في أوروبا لا يبعد موقفها عن موقف بعض المحافظين من الجديد، ثم كان الزمان كفيلاً بإذابة الجليد، وصار الناس يتلهفون لكل جديد. ليس المقصود تسويغ موقف المناوئين للجديد، بل تفسيره وتفهمه بما يعين على ترويضه وإقناعه أن الشر لا يتربص بك خلف كل تطوير أو جديد خارج مألوفك. إضافة إلى ما تقدم، فإن مما يفاقم المشكلة أن نواجه ذلك الموقف بتشنج واستفزاز مماثل أو أشد، أو بمغالاة في تقدير موقف رافض التطوير والتجديد ربما تكون في بعض الأحيان موهومة، فمثلاً لا أظن الأمر وصل برموز هذه الشريحة الممانعة إلى تكفير من يسعى للتطوير أو التجديد كما يروج بعض الإعلاميين ذلك، وقد تكون المشكلة أن المتهمين بالتكفير يتداولون مصطلحات شرعية يظنها الناس تكفيراً للأشخاص وليس الأمر كذلك. دعك ممن يكتب في مواقع التواصل الاجتماعي بأسماء مستعارة بكلام يحسب على طيف ربما هو يتصنعه وليس منه، في محاولة تشويهه. هل يجوز إقحام الدين في شتى ميادين الحياة؟ سؤال يلح في طرحه بعضهم مستنكراً، وكان لا يسعهم الجهل بذلك، فما من شك أن مجالات الحياة كلها تخضع لضوابط وكليات شرعية عامة تنحو بها منحى العدل وإعطاء الحقوق وحفظها وصيانة الفضيلة. والعبارة المكررة كثيراً لطمأنة الناس عما هو جديد «بما لا يتعارض مع تعاليم الشريعة» تُثبت هذا تماماً، فالشريعة ليست هي المحرك للحياة وراسمة خطتها بتفصيلاتها وأحوالها، ولكنها ضابط للحياة، كالإرشادات المرورية على جنبات الطريق. ولو كانت الشريعة في معاملات الناس وتنظيم حياتهم كما هي في شأن العبادات التوقيفية التي لا يجوز للناس أن يزيدوا فيها أو ينقصوا منها أو يجتهدوا في تجديد هيئتها، إذاً لجمدت الحياة على نمط تقليدي لا يدخله التغيير، ولو كانت الشريعة كذلك لكانت أشد شيء حرباً على التجديد والتطوير، وحاشاها. لذا ليس مطلوباً من المسلم أن يبحث في الشريعة عن نمط حياته وتنظيماتها، إنما هو يختار ما يناسبه وهو أثناء ذلك يراعي ضوابط الشريعة العامة المحكمة، والأحكام التفصيلية المنصوصة لمعاملات معينة، لكنها محصورة معروفة، كتحريم الربا والزنا والسفور والخلوة.. إلخ. الأمر في شأن التجديد يحتاج صبراً وحلماً وتفهماً لطبيعة المجتمع، وقدراً في التدرج والوضوح أيضاً، ألسنا نشيد بالشريعة في تدرجها في تشريعاتها؟ لماذا لا نقتدي بها إذاً؟ كثير من مستجدات الحياة ارتاب منها بعض المجتمع وحذروا منها وحاربوها، ثم كان الوقت كفيلاً بإذابة الجليد كما قلت، كانوا يحذرون من إعطاء المرأة الجوال لأنهم يرونه وسيلة لإفسادها، ثم الآن هم من يسارعون إلى تسديد جوالات نسائهم إذا قطعت عنها الخدمة! ومثل ذلك جوال الكاميرا... إلخ. ومع ذلك أقول إن بعض خطوات التطوير والتجديد جاوزت حدود الضوابط الشرعية التي لها الأدلة المستفيضة في القرآن والسنة، فلا بد من إخضاع برنامج التطوير والتجديد إلى المناقشة والمراجعة والمشورة، وبخاصة في قضايا تمس الأعراض في المجتمع، فلا يناسب فيها الأخذ بعسف وصرامة ومسارعة تفتقد الهدوء والأناة. ومن هنا تأتي أهمية إشراك المجتمع في تقنين وتنظيم هذه البرامج، ومن المغالاة في أهمية التجديد والمعاصرة أن ينظر إلى الجديد على أنه سالم من كل علة، وأنه أفضل من القديم على أي نحو كان لمجرد أنه جديد وذاك قديم، وفي ظني أن هذا إفراط يدفع بالخصم إلى مزيد من المناكفة والمعاندة. * أكاديمي في الشريعة. [email protected] samialmajed@