عندما كتب انطون تشيكوف مسرحيته المكتملة الأولى «بلاتونوف» كان لا يزال دون العشرين من عمره. يومها رفضت هذه المسرحية على الفور ولم تقدم مسرحيّاً. بل ان تشيكوف أيضاً لم ينشرها في طبعة طوال حياته، لذا لم تنشر للمرة الأولى إلا في العام 1923. ولنضف الى هذا ان عدم اهتمام تشيكوف بمسرحيته الأولى هذه جعله غير حريص على مخطوطتها، لذلك تمزق غلافها، وضاع الى الأبد عنوانها الحقيقي، الى درجة ان الاسم الذي عرفت به طوال القرن العشرين، وهو «بلاتونوف» انما كان اسماً اصطلاحياً، واكبه دائماً اسم مفترض آخر هو «فضيحة ريفية». المهم ان تشيكوف تجاهل هذا العمل دائماً معتبراً اياه «مجرد محاولة اولى، غير ناضجة، في الكتابة للمسرح» او بالأحرى، مجرد «تجميع اصيل لبعض الأفكار سيستخرج منه، في ما بعد، أشخاصاً ووضعيات تفيد في استنباط تفاصيل مسرحياته المقبلة». وهذا ما حدث بالفعل، اذ اننا سنجد الكثير من اجواء «بلاتونوف» وأشخاصها، وأزمات هؤلاء الأشخاص، في الكثير من مسرحيات تشيكوف التالية، بما في ذلك «ايفانوف» و»بستان الكرز» و»الخال فانيا» وغيرها. كتب انطون تشيكوف هذه المسرحية، اذاً، بين العامين 1878 و1881 ... صحيح انه يبدو قد شاء في ذلك الوقت المبكر من انتاجه الكتابي ان يجعل نوعاً معيناً وربما تبسيطياً من المناخ الميلودرامي يسيطر على حبكة المسرحية وعلى احداثها، ومع هذا يبقى الخطّ الأساس في «بلاتونوف» قدرة الكاتب الشاب تشيكوف فيها، على التعبير عن فقدان المثل العليا، بالنسبة الى شخصيته الرئيسة: المدعو بلاتونوف. اذ، من هذه الناحية، لا من ناحية الصياغة الأسلوبية وتفاصيل رسم العلاقات بين الشخصيات، يمكن النظر الى «بلاتونوف» بصفتها عملاً مميّزاً وكبيراً. ولعل هذا هو ما رآه فيها، بعد كتابتها بقرن، المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف وجعله يحولها فيلماً سينمائياً يعتبر اليوم من كلاسيكيات السينما السوفياتية وواحداً من أجملا أفلامه وأعمقها، وهو «مقطوعة غير مكتملة لبيانو ميكانيكي». والواقع ان ميخالكوف رأى في هذا العمل جوهراً معاصراً، فاتت رؤيته مسؤولي المسرح الذين رفضوه حين قدمه تشيكوف على شكل مسرحية اولى له. وفي تعبير لناقد سوفياتي معاصر لزمن تحقيق الفيلم (1967) «عثر ميخالكوف في مسرحية تشيكوف هذه على افكار يمكنها ان تحرك مشاعر الجيل الذي تجاوز الثلاثين من عمره، اي الجيل الذي ينتمي اليه المخرج نفسه». طبعاً ليس الحديث عن فيلم ميخالكوف ما يهمنا هنا، بل المهم هو تلك المسرحية التي ستبدو لنا، في الأحوال كافة، انه قد اسيء فهمها في ذلك الزمن المبكر، الذي كانت ثورة الفرد على نفسه فيه، لا تزال من الأمور المبكرة. والحال ان جوهر «بلاتونوف» هو تلك الثورة التي يندفع فيها بطل المسرحية بلاتونوف، بعد ان يكتشف خواء حياته ومجانية التنازلات التي قدمها خلال مسار تلك الحياة. ومن هنا حين يصرخ بلاتونوف في واحد من المشاهد الأخيرة للمسرحية، ثم للفيلم، قائلاً: «كل شيء ضاع! خمسة وثلاثون عاماً ضاعت!» فإنه يكشف بوضوح انه لم يتوصل الى ادراك هذا الواقع الذي عاشه وأخفق فيه، الا بعد تلك الهزة الروحية التي اجبرته في نهاية الأمر على ان ينظر الى نفسه وإلى المحيطين به وإلى الحياة إجمالاً، نظرة واعية، لم تكن قبلاً غائبة عنه، لكنه كان يتعمد تنحيتها جانباً، كما يمكننا ان نفهم في وقت لاحق من زمن المسرحية. أما احداث المسرحية فبسيطة للغاية، بل هي أيضاً أحداث تبدو متسارعة في وتيرة تتاليها، لأنها تكاد تدور في يوم واحد وأمسية واحدة، وفي مكان واحد، هو حديقة ومنزل سيد اقطاعي تجمعت فيه خلال ذلك اليوم نخبة من رجال الفكر والثقافة والجيران، لتمضية وقت ظريف. في البداية يكون كل شيء هادئاً رتيباً: عبارات مجاملة متبادلة، مزاح بين الحاضرين، لعب مرح، اقبال على الصداقة وعلى الحياة. ولكن شيئاً فشيئاً، وكما في لوحة لبروغل يتأملها المرء ليدرك بسرعة كل تلك الأمور الأكثر جدية الكامنة في خلفية هدوء الشخصيات، يبرز لنا من بين الحضور، بلاتونوف، وهو في الأصل مالك أراض بذّر ثروته في شكل جنوني، ثم ها هو الآن وعد زوجته ساشا بأن يبدأ حياة جديدة أستاذاً في مدرسة قريبة. بيد ان هذا الوعد لم يمنع بلاتونوف من ان يمضي جل وقته في دارة آل فوينتسيف، حيث يجتمع الأصحاب الآن. وهو هناك في هذه الدار يمضي وقته بين رفضه إغواءات آنا، ارملة الجنرال فوينتسيف الراحل، ودفعه لإغراءات ماريا غريكوف، العالمة غير الجذابة التي يبدو من الواضح انها مغرمة به. اما المشكلة الحقيقية في هذا كله فهي ان سيرغاي، ابن آنا من زوجها، متزوج من الحسناء صونيا، التي كانت ذات يوم حبيبة بلاتونوف. وكل هذا لن يظهر لنا إلا بالتدريج، ليرسم خطوط المأساة المقبلة التي ستلوح مريرة حادة وسط الهدوء الغامر المكان أول الأمر. ولسوف يتبين لنا كذلك ان بلاتونوف بتصرفاته، يتمكن الآن، ومن جديد، من ايقاظ مشاعر صونيا تجاهه، بعد ان كانت هذه المشاعر اختفت طويلاً، وحدث ما حدث في حياة بلاتونوف. هذه المرة يلتقي الحبيبان من جديد، ويكتشفان انهما قد أخطآ في الطريقين المتباعدين اللذين اختاراهما لحياتهما. وبات عليهما ان يصلحا، معاً، أخطاء الماضي. وهكذا يقرران الهرب معاً... بعد ان يرى بلاتونوف ان عليه، هذه المرة أيضاً، ان يجعل لحياته بداية جديدة. وهنا اذ تدرك ساشا، زوجة بلاتونوف الطيبة والوفية، حقيقة ما يخطط له زوجها، تجابهه، ولكن ليس لكي تتهمه بالإساءة اليها، بل لكي تتهمه بأنه انما يسعى الآن أيضاً الى خراب بيت رجل آخر. وإزاء هذا الوضع، ولأن بلاتونوف لا يعير اتهامها اي اهتمام، تحاول ساشا ان تسمم نفسها، زهداً في هذه الحياة التي تحياها... لكنها تفشل في ذلك. اما بلاتونوف فإنه يعلن توبته ويقرر العودة الى زوجته وإلى حياته معها. وإذ تدرك صونيا ما حدث تغرق في يأس مدمر، يدفع بلاتونوف الى الشعور بأنه السبب في ذلك كله، وأنه ابن لعنة لا تكف تنصبّ على الآخرين، لذلك يقرر ذات لحظة ان يضع حداً لحياته بالانتحار. ولكن فيما يكون على وشك قتل نفسه تدخل الغرفة، ماريا العالمة، وتحيطه بحنانها كما بذراعيها ليجد نفسه، في حيرته، مندفعاً نحو مبادلتها العناق بصورة آلية... وفي تلك اللحظة بالذات تدخل صونيا الغرفة لتجد بلاتونوف وماريا متعانقين فيجن جنونها وتطلق النار على حبيبها مردية اياه قتيلاً... منهية تلك المسرحية التي اخذ عليها دائماً انتقالها السريع من التهريج الى الميلودراما. واضح إذاً ان شخصية بلاتونوف هي الشخصية المحورية هنا، وهي شخصية تعبر عن أزمة كان تشيكوف نفسه يعيشها خلال تلك المرحلة من حياته: فمنذ زمن بعيد لم يعد بلاتونوف يؤمن بشيء... ولم يعد يؤمن بنفسه حتى. لقد خان افكاره ومبادئه، خان مشاعره وحياته، وانخرط في درب المساومة حتى فقد كل براءته، ولم يعد قادراً على الوقوف ضد الخساسة المحيطة به، بل صار جزءاً منها بزواجه من غير حب وعلاقته الغرامية من غير فرح... هو الذي يصرخ ذات لحظة: «انا ادرك الآن بكل تأكيد انه حسب المرء ان يخون مرة، وأن يكذب في ما آمن به، حتى يستحيل عليه الإفلات من سلسلة الخيانات والأكاذيب». كما اشرنا، قد لا تكون مسرحية «بلاتونوف» عملاً كبيراً من أعمال انطون تشيكوف (1860-1904)، لكنها مهدت لرسمه شخصيات مشابهة، وشديدة المعاصرة، في بعض ابرز اعماله المسرحية التي خلدت اسمه لاحقاً وجعلته من كبار مؤسسي الحداثة المسرحية، في بلده روسيا، كما في العالم كله، مثل «ايفانوف» (1887) و«العرس» (1889) و»طائر النورس» (1896) و»الخال فانيا» (1899) و«الشقيقات الثلاث» (1901) و«بستان الكرز» (1904). [email protected]