أخيراً، فعلها الرئيس باراك أوباما المتهم بالتردد والتخاذل... تعهد علناً أن يواجه الكونغرس ولو بالفيتو الرئاسي، ولكن ليس لفك الحصار عن مخيم اليرموك، ولا لإنقاذ الجوعى في سورية، ووقف ما يعترف هو بأنه «وحشية بلا حدود» في حق شعبها. إنهم فقراء أميركا وطبقتها الوسطى المسحوقة، يستعيد بهم أوباما شعبيته الفاترة. لكنه في خطابه عن حال الاتحاد لم ينسَ إيران ولا «القاعدة»، ولا المستقبل الذي «يستحقه الشعب السوري» بلا «ديكتاتورية وإرهاب وخوف». أليست إدارته هي التي حققت إنجاز نزع الأسنان الكيماوية للنظام السوري، فحطمت ما كان يسميه «توازن الردع» مع إسرائيل؟ ذكّر بأن ذاك لم يكن ليتحقق لولا ديبلوماسية القوة الناعمة، فيما تجاهل محطات جنيف السوري، وصنّف حتى دعم المعارضة في سياق مواجهة «الشبكات الإرهابية». ومرة أخرى، يرابط أوباما في خندق الممانعة إزاء أي مشروع حرب أميركية، بات من الماضي في الحرب السورية المنسية، إذ تحوّلت إلى مجرد ساحات لمواجهة فصائل «إرهابية» مثل «داعش»، ومجرّد وعود بالبيانات لفك حصارات عن أحياء في حمص أو حلب، قد تستغرق شهوراً لإخراج عشرات الآلاف من السوريين من كابوس الجوع والمرض. في الداخل، قلب أوباما مع فقراء أميركا، وفي الخارج عينه على إعادة دمج إيران في المجتمع الدولي «إذا اقتنصت فرصة» تطبيق الاتفاق المرحلي مع الدول الست لتجميد برنامجها النووي، تمهيداً لتفكيكه. ومجدداً قالها صراحةً الرئيس الأميركي أنه لا يريد حرباً على إيران أو معها، لذلك لوّح بسيف «الفيتو»، إذا شدد الكونغرس العقوبات عليها، فطيّر بالتالي الفرصة الأخيرة «الذهبية»، ليدخل أوباما التاريخ من البوابة الإيرانية: تطبيع كامل وشراكة بين واشنطنوطهران، إن لم يتراجع خامنئي عن قبوله رقابة دائمة وكاملة على البرنامج النووي. يريد الرئيس الأميركي في ولايته الثانية، تكريس شعبية الرئيس الذي يدافع عن مصالح الشريحة الواسعة من مواطنيه في مواجهة مصالح الأغنياء وجشعهم، والرئيس الذي يقاوم في الخارج «استدراج» الولاياتالمتحدة إلى حروب في الشرق الأوسط أو منطقة الخليج. لذلك يكتفي برفض لفظي لمحاولات تمديد «شرعية» لنظام الرئيس بشار الأسد، وأما الحل لوقف حمامات الدم في سورية، فيتركه لمجريات الصراع، بالتالي لا يكون ولن يكون بين أولويات البيت الأبيض تمكين المعارضة من حسم عسكري. وتدرك واشنطن وسواها من العواصم الكبرى أن النظام الذي يعتبر تنحّيه ضرباً من الوهم والخيال، لن يسلم السلطة، ولن يسلم رأسه. حتى الدعوة الإيرانية الملتبسة إلى خروج القوات الأجنبية من سورية، لم يتلقفها البيت الأبيض كي تستخدم طهران نفوذها الإقليمي، وتبدأ أولاً بسحب «الحرس الثوري»، ولا هي بدت جدية، إذ توارت الدعوة سريعاً، قبل انطلاق قطار «جنيف2». وحتى بافتراض تطلّع إيران إلى تفويض أميركي- أوروبي لاحتواء «إرهاب القاعدة والتكفيريين» بالوكالة في سورية والعراق ولبنان وسواها، فالأكيد حتى الآن أن الغرب- وواشنطن خصوصاً- الذي يرى في إيران داعماً للإرهاب، لن يغامر بتسليمها المنطقة من نافذة شراكة في «مكافحة الإرهاب». صحيح أن الولاياتالمتحدة ودولاً أوروبية خاب أملها بفشل ذريع مُنيت به السياسة التركية في رعاية تيارات الإسلام السياسي في بعض دول «الربيع العربي»، تمهيداً لاحتوائها تحت مظلة أنقرة أردوغان، لكن الصحيح ايضاً أن القوى البارزة في الحلف الأطلسي لا تثق بقدرة إيران منفردة على مواجهة عشرات من فروع «القاعدة» والجماعات «الجهادية». وما لا يقال علناً في واشنطن وباريس أو برلين الآن، أن رعاية طهران لنظام نوري المالكي في العراق لم تضمن أمنه، ولا وقف موجات التفجيرات، بل العكس، أتاحت وقوداً لاندفاعة جماعات مثل «داعش». ومرة أخرى، واضح أن إيران كانت تعدّ نفسها لمقايضة ما، على هامش الاتفاق «النووي»، لم تنضج ظروفها، كما أثبت استبعاد طهران من «جنيف2» السوري. العامل الآخر أن القوى الغربية الراعية لمساري جنيف- السوري والإيراني- ليست قادرة على تجاهل دول عربية مؤثرة، ترى طهران جزءاً من مشكلات المنطقة وصراعاتها، لا يمكنه أن يتحول جزءاً من الحلول. وأما ما يراه سيد البيت الأبيض بين أولوياته في ما تبقى من ولايته الثانية، فهو تفادي حرب مع إيران، وصفه في خطابه بأنه بات من ضرورات الأمن القومي الأميركي. قلب أوباما على فقراء أميركا، عينه على إيران وشراكة بعد تطبيع، إذا اقتنصت «الفرصة». يتمنى أن تقتنصها، وسيبادر بشجاعة لمواجهة الكونغرس بفيتو إذا «شاغب» بعقوبات جديدة... وأما السوريون فكفاهم مقاومة تناسل «القاعدة». «القاعدة على طريق الهزيمة لكنّ التهديد تغيّر»، قال الرئيس الأميركي الذي كان شيَّع «القاعدة» ونواتها الأساسية قبل سنة.