صادفت الأيام الماضية مرور ثلاثة أعوام على بدء حال الربيع العربي الذي أعلن الكثيرون ممن رأوا فيه تهديداً لهم نهايته أكثر من مرة في شكل متناوب منذ أيامه الأولى. فهل حقاً انتهت حال الربيع العربي؟ كيف نستطيع مقاربة ما حدث في الأعوام الماضية بحيث نتحاشى إطلاق أحكام كبرى في الوقت نفسه الذي لا نقع فيه بعدم القدرة على الحكم؟ هذا ما سأحاول رسمه في الأسطر المقبلة. من ناحية مبدئية، يجب التفريق بين «حال الربيع العربي»، و«محاولات التحول الديموقراطي»، فهذه الأخيرة هي التي نستطيع أن نقيمها، ونطلق عليها أحكاماً من قبيل «فشل» و«نجاح» وما إلى ذلك. ففي الأعوام الماضية بدأت في أكثر من الدول التي سقطت فيها النخبة السياسية الحاكمة محاولات جادة للتحول الديموقراطي، انتهت هذه المحاولات إلى نتائج مختلفة، إذ أجهضت في مصر، وتم احتواؤها في المغرب وتسير بنجاح نسبي في تونس، ومتعثرة في شكل كبير في ليبيا واليمن. نحن هنا لا نستطيع الحديث عن «مسار تحول ديموقراطي» بقدر ما نستطيع الحديث عن «مسارات»، وبالتالي لا يمكن الخروج بحكم واحد بل أحكام. كما أننا أيضاً يجب أن نفرق بين «حال الربيع العربي» و«محاولات النظام الإقليمي العربي لإفشال محاولات التحول الديموقراطي». فهذه الأخيرة، تشير إلى مجموعة من السياسات تقوم بها الدول التي لم تجد في عملية التحول الديموقراطي أمراً يصب في مصلحتها، وذلك إما لأن مخرجاتها الإسلامية مثلت تهديداً لها أو لرفضها وجود نموذج سياسي مغاير لها أو لأن النظام القائم يمثل ركناً قوياً من أركان سياستها الإقليمية. فعلى سبيل المثال دعم ويدعم كل من المالكي في العراق وحزب الله في لبنان ومن ورائهما إيران، نظام بشار الأسد، وذلك للدور الذي يلعبه في التحالف السياسي الرابط بين هذه الكيانات السياسية. فإن كانت حال الربيع العربي مختلفة عن هذين الأمرين فما هي؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب تأكيد توصيفها بأنها «حال»، أي أنها ليست عملية بل مجموعة من الشروط والظروف التي خلقت نوعاً من المناخ، تصالحنا على تسميته بالربيع العربي، هذا المناخ استغرق تشكله قرابة العقد من الزمان، نتيجة ظروف وسياسات متنوعة التي سأذكر بعضاً منها بعد قليل، جعل من هذه الحال قائمة، وما زالت قائمة، ذلك أن سمتها الرئيسة تهاوي قبضة الكيانات السياسية العربية على التحكم بمجرى الأحداث. فقوة أية مؤسسة أو نظام ما تكمن في قدرته على أن يمكن الفاعلين داخله من التنبؤ والثقة. فصاحب المتجر الصغير في حلب قبل أربعة أعوام كان يضع جهده وماله في متجره، لأنه واثق من أمور عدة، فهو واثق مثلاً بأن هناك درجة من الأمن ستمنع غيره من الفاعلين من أن يقوم بسرقة ماله، وأنه لو تمت سرقته فإن هناك جهات ستستطيع استرداد حقه أو جزء منه، وهو واثق كذلك بأن قيمة الليرة السورية ستحافظ نسبياً على قوتها في الأعوام المقبلة، بل إنه ربما لم يفكر في هذه الجوانب، ولم يحسب لها حساباً، وكونه فعل ذلك إنما يعود إلى كونه مطمئناً لها، هذه الحال من الاستقرار والثقة والقدرة على التنبؤ تلاشت هذه الأيام، فلا يمكن لصاحبنا هذا أن يفكر ويضع جهوده في أي عمل تجاري، ذلك أنه لا يعلم من سيحكمه غداً، لا يعلم ما القوانين التي تحكمه أو على الأقل لا يستطيع الثقة بما هو موجود اليوم أن يستمر إلى الغد. هذه الحال تزايدت ببطء في الأعوام الماضية لعوامل عدة، من أهمها تولد فضاءات عابرة للدولة وخارج نطاق سيطرتها في شكل نسبي كفضاء الإنترنت والقنوات الفضائية التي شكلت ما وصفه مارك لينش ب«الفضاء العام العربي». هذا الفضاء العام بسبب تحرره من هيمنة الدول وتوفره على نوع من الحرية في التواصل مكّن من نشوء سردية عامة تجمع الشعوب العربية في شكل مشترك في تعاملها مع الأحداث الكبرى التي حدثت كاحتلال العراق والاعتداءات الإسرائيلية ضد لبنان وفلسطين، والمظاهرات اللبنانية ضد الوجود السوري في لبنان. هذه السردية تجعل من ارتدادات الأحداث وانتقالها والتفاعل معها، أعلى بكثير مما سبق، وغير خاضع لسيطرة الدول العربية. إضافة إلى هذا البعد يأتي احتلال العراق وما تبعه من اقتتال وما تلاه من إخفاقات متتالية للدول العربية في معالجة القضايا العربية، إلى تقلص شرعية النظام العربي في شكل كبير، للدرجة التي كانت كل المعارك التي خاضها العرب في ال10 الأعوام الأخيرة ضد الاحتلال - سواء الأميركي أو الصهيوني - إنما تتم عبر حركات مقاومة وليس عبر جيوشها النظامية. وضمن هذين البعدين جاء البعد الاقتصادي ليؤكد باستمرار فشل الكثير من هذه الأنظمة في تحقيق حياة رغيدة لمواطنيها وانتشالهم من براثن الفقر والبطالة والأمية. كل هذه العوامل المشتركة أنتجت هذه الحال التي فتحت باب الاحتمالات المتنوعة، وأتاحت للكثير من الفاعلين من صناعة الأحداث، وقللت في شكل كبير من قدرة الدول والكيانات السياسية - فنحن اليوم بالكاد نستطيع الحديث عن وجود دول في العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا - قادرة على التحكم بمجرى الأحداث، فلئن كان بالإمكان القضاء أو محاصرة بعض مخرجات هذه الحال، إلا أن هذا كان دوماً على حساب تعميق هذه الحال وزيادتها. [email protected] @sultaan_1