أن يتباكى وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم على «بلده» الواقع ضحية «الإرهاب»، وألا تتوقف عن الابتسام والضحك خلفه في الصورة المستشارة الإعلامية لرئيسه، فهذه صورة عن مدى تصديق وفد النظام لما جاء في كلمته، وعن مدى حساسية النظام تجاه ما يدّعيه من وجود معاناة إنسانية وجرائم إرهابية يرتكبها الآخرون. ثم أن تسترسل المستشارة الإعلامية نفسها بالضحك، بينما يجادل وزير خارجيتها الأمينَ العام للأمم المتحدة، مصرّاً على أنه سيتجاوز الوقت المخصص له بمقدار ما يريد، فتلك أيضاً دلالة على غياب حس المسؤولية إزاء الحاضرين في القاعة، سواء تجلّى ذلك بضحكتها أو بإصرار الوزير على استباحة وقت الحضور وإحراج إدارة المؤتمر. في مستهل كلمته في افتتاح «جنيف 2»، يقول المعلم: «حانت اليوم لحظة الحقيقة». ولعله كان مصيباً في هذا الجزء، فما قدّمه وفده في قاعة المؤتمر يشير إلى الحقيقة على مستويات عدة. هو أولاً لم يتجاوز الشكليات والبروتوكول فقط عندما تجاوز الوقت المخصص له، وتجاهل جرس التنبيه مرات، هذا بالأحرى استمرار لنهج النظام الذي دأب على استباحة كل القوانين والقواعد الدولية والأخلاقية، إنه بالأحرى استمرار لسلوك النظام في الداخل والخارج، وقد ظهر للجميع علناً من جانب الشخص الذي يُفترض به أن يمثّل رأس ديبلوماسية النظام. ما يُشاع عن خبرة المعلم وعراقته في أروقة الديبلوماسية كان يتبدد أثناء كلمته التي انتهكت- إضافة إلى الوقت- توصيات إدارة المؤتمر بالابتعاد عن الشتائم والبذاءات، فهو أصر على شتم غالبية الوفود المشاركة، ووزع الاتهامات على كل من يخالف نظامه الرأي وصولاً إلى تخوين الوفد المعارض، مقدماً بذلك عرضاً حياً لتعاطي نظامه مع معارضيه في الداخل. المزاعم عن الخبرة الديبلوماسية للمعلم كانت أشاعت تخوفات حتى في صفوف بعض المعارضين، لأن وفد المعارضة قد يبدو ضعيفاً وبلا خبرة سياسية إزاء تمرس الأول في المحافل الدولية. لكن الوقائع أثبتت العكس، فوزير خارجية النظام لم يقدم سوى الخطاب الإعلامي المستهلَك داخلياً، ولم يدخل في صلب الدعوة المؤسِّسة ل «جنيف 2»، وإذا كان وفد المعارضة اضطُر إلى الرد على مزاعمه حول الإرهاب، فقد عاد إلى التحدث في الموضوع الرئيس من دون إسهاب أو إنشاء. المسافة بين الخطابين لا تُختزل بنجاح وفد المعارضة أمام أول اختبار له. الأهم أنها تفنّد مزاعم النظام وحلفائه عن عدم وجود بديل يملك الكفاءة لإدارة الحكم في سورية. وإذا أضفنا التشكيك المتواصل بكفاءة المعارضة والتشكيك بالنسبة التي يمثلها الوفد الحالي منها، فإن هذا يثبت حجم الكفاءات المغيّبة لمصلحة استفراد أزلام النظام بالحكم. سيان هنا إن كان «المعلم» مجبراً على قراءة كلمة مكتوبة سلفاً، أو أنه أعدّها بنفسه. فالاحتمال الأول يشي أيضاً بقدرة النظام على تسفيه كفاءات مسؤوليه. في اختبار مونترو، حقق وفد النظام نجاحاً باهراً في إفهام العالم أنه لا يصلح أن يكون شريكاً مناسباً للمعارضة في الداخل، أو للمجتمع الدولي، باستثناء أن يكون استمراره في القتل والتدمير وجلب الإرهاب مصلحة لبعض الدول. هذه هي الحقيقة التي أراد النظام إيصالها فعلاً، مبدداً تلقائياً التكهنات التي راجت عن رغبة المجتمع الدولي في إعادة تأهيله ليكون شريكاً في الحرب على الإرهاب. النظام، كما تثبت الكلمة الافتتاحية لوفده، واقع في أسر ذاته، فهو لا يستطيع مساعدة حتى أولئك الذين يرغبون في تقديم العون له، ولو لم يكن كذلك لأخذ في الحسبان التطورات السابقة على عقد المؤتمر، انتهاء باستبعاد إيران من المؤتمر وابتداء بالمعارك التي تخوضها المعارضة ضد إرهاب «داعش»، مروراً بانكشاف الحقائق عن العلاقة الاستخباراتية التي تجمعه ب «داعش»، من دون أن ننسى الفضيحة الكبرى المتعلقة بضحايا الموت تعذيباً في سجونه. وما عدا مُوالي النظام المستعدين للتصفيق لكل ما يصدر عنه، للمرة الأولى يرى السوريون حقيقة الأداء السياسي لمسؤوليه. ففي ما سبق كان في وسع بعضهم ردّ الهوة بين الديبلوماسية السورية ونظيراتها العالمية إلى التخلف السوري عموماً؛ الأمر الذي لم يعد وارداً مع وجود وفدين سوريَّيْن لا تخفى الفوارق بينهما. وكان إعلام النظام نجح في إقناع كثيرين داخلياً ببراعة ديبلوماسيته التي أفضت إلى تفويض دولي بالإمساك بسورية وبملفات إقليمية أخرى، غير أن ما حدث في مونترو يكشف تهافت تلك المرويات، وأن ذلك التفويض مُنح بحكم الأمر الواقع على السوريين أصلاً، بل إن شعوراً بالخزي لا يغيب عن معارضي النظام، لأن «النخبة» الحاضرة في المؤتمر تمثّل مجمل ما أُجبِروا على الخضوع له طيلة أربعة عقود. صحيح أن افتتاح المؤتمر لا يعدو كونه احتفالية إعلامية، وأن المفاوضات الفعلية تبدأ في الغرف المغلقة، إلا أنه يمكن الجزم بأن حقيقة النظام ظهرت للجميع في كلمة الافتتاح شكلاً ومضموناً. والأنكى أن جماعته ترى في انعدام اللياقة انتصاراً سيتم استكماله في ما تبقى من جلسات. إننا أمام كتلة صمّاء ستعجز أمامها حتماً الديبلوماسية الدولية. فالأشهر الستة المقبلة كفيلة بإقناع الوسطاء الدوليين بانعدام أية بارقة أمل بتغييرٍ ضمن النظام، ومع أن نتيجة هذا الاختبار متوقعة لدى شريحة كبيرة من السوريين ولدى المجتمع الدولي، إلا أن الأخير لا يرى ضيراً في أن يثبتها مفاوضو النظام بأنفسهم، المرة تلو الأخرى في جولات التفاوض، إلى أن ينتهي ملف الأسلحة الكيماوية وولاية الأسد معاً. ما لم يقصده المعلم هو أن لحظة الحقيقة بدأت حقاً من خلال الاختبار الطويل والشاق الذي سيخضع له نظامه في جنيف، كثيرون يقرأون المؤتمر بصفته فرصة أخيرة لتأهيل النظام، لا بصفته فرصة للسوريين. وكان حرياً بالنظام أن يفرح بالعزلة الدولية شبه التامة لأنها أعفته تماماً من السياسة، أما وقد اضطُر إلى ممارستها الآن، فعليه إثبات وجوده في الميدان الذي لا يتقنه ولا يطيقه. النتيجة معروفة سلفاً بانتظار أن يقرر إعلانها أولئك الذين لا يودّون ذلك.