اختتمت مساء (الخميس) الماضي فعاليات المهرجان الثاني لجائزة السنوسي الشعرية في جازان، الذي أقيم خلال الفترة 21-23 كانون الثاني (يناير)، بعد ثلاثة أيام من الشعر ومساءلة القصيدة الجديدة في المملكة. ثلاثة أيام أعاد فيها المشاركون، الذين بلغ عددهم أكثر من 80 شاعراً ومثقفاً وناقداً من داخل المملكة وخارجها، السنوسي إلى الواجهة ورسخوا اسمه الذي لا يحتاج إلى ترسيخ، فهو مكرس في أذهان الشعراء ووجدان محبي الشعر، لكن مجلس التنمية السياحية في جازان والمشرف على الجائزة أراد تأكيد القيمة الكبيرة التي يمثلها السنوسي. وكرّمت الجائزة عدداً لا بأس به من رموز الأدب والثقافة والتاريخ في المنطقة، فضربت مثالاً فريداً في الوفاء يصعب على أية مؤسسة ثقافية أن تفعل الفعل نفسه بسهولة. قرأ الشعراء شعرهم وأدلى النقاد بملاحظاتهم على الشعر في المملكة، وتفاعل محبو الشعر بالمنطقة، وجمعت الجائزة شعراء بارزين من مختلف مدن المملكة، وهيأت لهم البيئة المناسبة للالتقاء والتحاور والحوار والنقاش والسجال حول قضايا أدبية وثقافية وشعرية عدة، على هامش الأمسيات. ومثّل بعض الأسماء في المنطقة مثالاً جميلاً في الكرم والمحبة، إذ واظبت المثقفة خديجة ناجع على الاحتفاء بالمثقفين، وأولمت لهم في آخر يوم من المهرجان، فجلبت عشاء ومأكولات شعبية من بيتها شخصياً، وأشرفت بنفسها على إطعام الضيوف، رجالاً ونساء، فضيوف «جازان» ليسوا ضيوف «جائزة السنوسي»، إنما ضيوفها وضيوف المنطقة، فضربت نموذجاً يصعب تكراره وكانت قريبة جداً من المشاركات. وعندما صعدت الشاعرة هيلدا إسماعيل لتقرأ قصائدها حيّت ناجع على موقفها ومؤازرتها لها. إذاً، فخديجة ناجع لم تكن مجرد امرأة، بل كما أطلق عليها المثقفون «أخت رجال» و«بنت أبوها»، للدور اللافت الذي لعبته في نجاح المهرجان، والألفة والمحبة والدفء الذي أضفته على جو الفعاليات. ودعا الشاعر علي الأمير عدداً كبيراً من الضيوف إلى طعام العشاء في منزله، وهيأ لهم جواً حميمياً للالتقاء والحوار. ومن الأمور المميزة في المهرجان، الزيارة التي قام بها المثقفون إلى جزيرة فرسان، ومنزل شاعر فرسان ومؤرخها إبراهيم مفتاح، وتجولوا على المعالم السياحية والأثرية في الجزيرة، واستمعوا لشعراء فرسان وهم يقرأون قصائدهم التي تركت تأثيراً عميقاً في وجدانهم، لما تميزت به من صور فريدة وشاعرية فطرية. وفي واحدة من أمسيات المهرجان اللافتة، كاد المسرحي صالح زمانان أن يتفوق على شعراء الأمسية التي أدارها، إذ قرأ تقديماً فريداً من نوعه، بل إن الدور الذي لعبه «مقدم أمسية» لم يسبقه إليه أحد، إذ انقلب على الدور التقليدي للمقدم أو مدير الأمسية، ليصبح جزءاً رئيساً في الأمسية. الشعر الذي انطوت عليه الورقة التي تلاها، قبل أن يدعو الشعراء واحداً واحداً، لامس الحضور وهزهم بعمق، ولم يكن مجرد ورقة عابرة ولا شعراً يمكن أن يصفق له البعض ثم يتوارى، ولا وجود تجارب قوية وراسخة، مثل تجربة أحمد الملا وعبدالرحمن موكلي وسواهم، لتفوق زمانان بسهولة وسرقه شعلة الضوء من الشعراء. فهو في كلمته تحدث عن وجه أمه المؤمنة ب«أفكارها القروية الطاهرة»، «تحدثني عن خشيتها من ألا أتذكر الله في أوقاتي التي أقضيها وحيداً، أو أقف فيها على شرفة أمام ترقب العالمين. الأمهات دوماً يحببن الله، الأمهات دوماً راهبات». وزج بالحضور في حزنه، عندما قال: «أنا حزين من البارحة وقبل البارحة وقبل عام وقبل أن أولد. بلى أنا حزين مذ كنتُ صخرة، فدلفين، فشجرة سدر. أعاني فشلاً ذريعاً في التأوه والصياح. نعم، أنا ثاني أضخم تراث للحزن، بعد موتى الأخدود. فما الذي يؤهلني لأن أقدم هذه الأمسية؟ ماذا؟ وما الذي خطر على بال الكريم ابن الكرام الذي دعاني إلى هنا؟ ما الذي خطر على باله ليتوقع أنني مُقدم جيد، عوضاً عن أن أكون جيداً للحديث عن الشعر والشعراء، عوضاً عن أن يكون الشعراء من أحبابي والقاطنين دمي؟ أنا لم أقدّم شاعراً من قبل، وعليكم أن تتحملوا الحوادث التي سأرتكبها، لأنني - وإن كنتُ زمانان - فإنني لا أذكر لي زمناً أستطيع الحديث فيه. فالخريف في حلوله يصيّر الأصدقاء أوراقاً صفراء، وفي الشتاء تتقمص كل الأمنيات دور ال«معطف» وتهرب إلى كالوس لا أعرفه! وفي الصيف أنضم إلى مواليد العالم وأصاب بالأنفلونزا الطويلة. أما الربيع فيصادف موت جدتي التي قضت آخر 40 عاماً من عمرها بقدم واحدة، فتفوتني رؤية الفتيات وهنّ يلبسن التنانير الربيعية القصيرة وأنا أمارس العزاء في زقاق قلبي الوارم! آه، ليتني بقيت صخرة أسند ظهري باتجاه السيل والريح، لأحمي عشبة في حضني، أو ليتني ظللت دلفيناً، تدربني وتحبني فتاة لقيطة»! كان تقديم زمانان في تلك الأمسية وحركة يديه وانفعال جسده وتوثبه وبحة صوته واحداً من العلامات التي لا تنسى ل«جائزة السنوسي»، وعلامة على مهرجان نجح نجاحاً باهراً من خلال ضيوفه وشعره وأمسياته والقائمين عليه، وبخاصة أولئك الثلة من الشباب المؤمن بالشعر والقصيدة الجديدة، الذين كانوا جزءاً من لجنته المنظمة. نجاح الجائزة في عامها الثاني فاق التوقعات وأحرج المؤسسات الثقافية بالمنطقة في تكرار الفعل نفسه، عندما رفعت السقف عالياً ودفعت الخصوم، ليس فقط لمهاجمة القائمين عليها، أنما إلى لتملق المسؤولين في ما يشبه الاستعداء عليهم. وأكد الأمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخدمة اللغة العربية الدكتور عبدالله الوشمي أن «جائزة السنوسي» استطاعت أن «تكمل دورتها الثانية، وهي جائزة راشدة»، موضحاً أن الرشد «يأتي من مداخل رئيسة، أولها أنها تتأسس على الوفاء، والوفاء لا يأتي إلا بخير. فكان الوفاء في الدورة الأولى لشخصية السنوسي، وفي هذه الدورة امتد الوفاء إلى جيل كامل من الآباء، إضافة إلى أن الجائزة تكمل الشعلة الجميلة التي بدأت تنتشر في المملكة، وهي الجوائز المسماة على كبار المثقفين». وقال الوشمي: «ما لفتني في لحظة التكريم، أنه كانت رسالة جيل الأبناء إلى جيل الآباء، وهي رسالة مضمرة تقول إن الشعر من حيث هو لا عمر له، وهو المطلق، فحضر الشاعر ال«ثمانيني» وال«سبعيني»، وكان الشعراء الشباب حاضرين، وكأننا نتحدث عن الشعر مجرداً من كل شائبة، وأكمل الجمال أن المشاركين في الدورة من مختلف الدول العربية، وإضافة إلى أن الفائز بالجائزة كان تونسياً، من قُطر عربي». وبخصوص الأمسيات الشعرية، لفت الوشمي إلى أنها «جمعت في الأمسية الواحدة أشكال الشعر كله، وفي الحلقة النقدية اشترك النقاد مع الشعراء في الحديث عن القصيدة، وكان المهرجان بأكمله يراهن على الشعر وحده، ومن هنا كان التنظيم شاعرياً وكذلك اللقاء، وكان المنبر يحتفي بالشعراء». فيما اعتبر الشاعر أحمد اللهيب أن مثل هذه التظاهرات «تهتم بالشعر بكل تجلياته، ولها أهداف كبرى وصغرى، أما الكبرى - في نظري - فهي أنها تُعنى بالشعر قيمة عليا وبالإنسان، أما الصغرى فهي وجود هؤلاء الشعراء الشباب، الذين يدهشون القلب قبل العقل، وأعتبرهم نواة للشعر السعودي مستقبلاً». وأشار إلى النصوص التي قرئت في الأمسيات، فقال: «إنها تجاوزت قصيدة النثر إلى جانب التفعيلة والقصيدة التناظرية»، موضحاً أن الدورة «أثبتت قدرة التعايش بين جميع الأشكال، ولعل الندوة النقدية أضاءت الكثير من الأمور. كل ما حدث في الجائزة يؤكد أن هذه المدينة (جازان) تتنفس الشعر حقاً». وقال الناقد المصري الدكتور عادل ضرغام: «تأتي أهمية جائزة السنوسي من ارتباطها بالمدينة الشاعرة (جازان). فحياة أهلها شعرية خالصة، يتجلى ذلك في أخلاقهم وسلوكهم وردود أفعالهم، وتأتي من ارتباطها باسم علم من أعلام الشعر العربي الحديث (محمد السنوسي)، الذي أسس مع آخرين تلك التربة الخيرة الشاعرة». وأضاف: «قيمة الجائزة ترتبط بالمشرف عليها الشاعر محمد يعقوب، الذي لا يدخر جهداً في سبيل نجاح العمل»، متمنياً أن تصبح الجائزة بالعمل والتطوير «أهم جائزة عربية في مجال الشعر، وهي قمينة بذلك من خلال الجهود المخلصة المشاركة في صنع قيمتها وتشكيلها بالتدرج».