ما كان لباحث يجمع إلى سعة العلوم صفاء المعرفة، أن يندّ عنه ما في القرآن والسنّة من نزعة تحليلية للنفس البشرية. وما نظننا في حاجة لإقامة الدليل. فالسور الشريفة، إضافة إلى الأحاديث النبوية، ملأى بما هو أغنى مما نأتي به للبرهان على سرد مفصل من المعالجات النفسانية في القرآن والأثر. والقاضي أبو زيد عبدالله بن عمر بن عيسى الدبوسي (ت: 430ه) في كتابه «الأمد الأقصى» والذي يتجه فيه نحو دراسة العلل النفسية والقلبية التي تبطل قبول الأعمال، وتنحرف بالإنسان عن الطريق السوي مثل الرياء والعجب، إنما كان يهتدي بكوكبة سبقته من العلماء المسلمين في هذا الشأن، كانوا قد نهجوا نهج التحليل النفسي كعمل متكامل، ويأتي في طليعتهم المحاسبي والحسن البصري وداود الطائي وإبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري وعبدالله بن المبارك وغيرهم. وهذا ما يشير حتماً إلى خبرة علماء المسلمين القدماء في التحليل والتعليل، خصوصاً حين نجدهم يتحدّثون في كثير من نصوصهم، عن النفس البشرية وخداعها، من دون أن يمثل ذلك بحثاً متكاملاً في موضوع محدد لديهم. أما القاضي أبو زيد الدبوسي، فقد وصل في عصره إلى درجة لا بأس بها من النضج في التحليل النفسي. فهو قد تتبع العلة بالتحليل والتعليل، والوصول من العلة إلى علتها، ليصل إلى أصل الداء في أعماق المشاعر الإنسانية. والقاضي الدبوسي الفقيه الحنفي والذي ينتسب إلى بلدة دبوسية بين بخارى وسمرقند، إنما نشأ في بلد خليق بالعلماء المسلمين. وقد تميز عنهم بما وجده «ابن كثير» فيه، فقال: «هو أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود». ولا غرو «فعلم الخلاف»، يبحث عن وجوه الاستنباط المختلفة من الأدلة الإجمالية أو التفصيلية، الذاهب في كل منها، طائفة من العلماء، ثم البحث عنها وفق الإبرام والنقض، وذلك دفعاً للشكوك عن المذاهب، وإيقاعها في المذهب المخالف. أفاد القاضي الدبوسي من تتلمذه على يد الشيخ الإمام أبي جعفر الأستروشي والشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل والإمام عبدالله السيد مومني وأبي حفص الصغير وأبيه الإمام الكبير، إضافة إلى تتلمذه على يد أبي حنيفة النعمان، ما جعله يبرع في علوم الفقه والشريعة، وما يتيح له في ما بعد الانصراف إلى التأليف والتدقيق والاجتهاد، بحيث يترك لنا الكثير من المؤلفات الجادة والمجتهدة مثل كتاب الأسرار، وتقويم أصول الفقه، وتأسيس النظر ونظم الفتاوى وخزانة الهدى، إضافة إلى كتابه الذي بين أيدينا: «الأمد الأقصى» والذي يأتي في شكل أو في آخر في السياق نفسه من التأليف المجتهد في علوم الفقه وكيفية حفظ مسائل الخلاف على المتفقهة. حين «تعسر عليهم طرق استنباطها، وبعدما تقصر معرفتهم عن الاطلاع على حقيقة مأخذها، واشتباه مواضع الكلام عند التناظر فيها». كما يقول المحقق الأستاذ محمد عبدالقادر عطا في مقدمته (ص 8). يتألف «الأمد الأقصى» من مقدمة وأحد عشر كتاباً: كتاب جهاد النفس، وكتاب حكمة أصل الخلق وكتاب الفصول الأربعة وكتاب العبودية وكتاب الفقر وكتاب الأمر وكتاب السجن والمملكة وكتاب الميزان. وكتاب أقسام الناس في الدين، وكتاب المحنة والحيلة وكتاب الدعوة والرؤية والبشارة. يقول القاضي الدبوسي في مقدمته: «أيها المتكلم فيما تصدقه الأصول وتحققه العقول، إني امرؤ حالفت المسير لأقف على بصير، يرفع عن أبصار قلبي من الشبهات ستوراً ويكشف لي في المشتبهات أموراً» (ص 30). ويقول في معنى الحرية الإنسانية: «والحرية عبارة عن خلوص الحق الحر له في نفسه وما له. وما لأحد حق على الفائز بالجنة في شيء من أحواله. فهو منعم عليه مكرم، أطلق عن حجْر المملوكية، وعتق عن عبادة العابدين وسقط عنه الأمر، وباينه الفقر، وتحقق له الملك واستوى على سرير الملك، لكن عطاء من الملك الأعلى، فله الآخرة والأولى». ثم يتابع فيقول: «أليس الحر منا يملك عبده فيكاتبه فيصير حراً في يده وفعله، وهو عبد في ذاته وأصله» (ص 34). كذلك يتحدث عن وسائل تحقيق الحرية بأربع خصال: قسم العبودية لله، وقسم الفقر له، وقسم المحمول (المجبر)، وقسم الخوف والحذر في العيش، في «مملكة الأعداء السالكة في مأوى اللصوص والمهالك» (ص 35). ويقول: «فإذا رضيت بقسم الحق، ولم يتعبك خوف الرزق، وسارعت في الأمور، وأسرعت قلبك عن الدنيا المسير، جاءك عند المنزل البشير» ملائكة الله [ألّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون] (فصلت: 11). ولا يمكننا إلّا أن نعتبر القاضي الدبوسي في موقع متقدم ومجتهد، من مواقع الدفاع عن الإسلام وعقيدته التوحيدية الجامعة، في مواجهة دعاوى التعارض بين الدين والعلم التجريبي. لهذا، نراه يتبع منهجاً توفيقياً وجامعاً، بين الدين وهذا العلم التجريبي. ولهذا، نراه يتبع منهجاً توفيقياً وجامعاً أيضاً، يجمع فيه الفلسفة والمنطق والعلم بمختلف فروعه وبين نصوص الدين قرآناً وحديثاً وأثراً نبوياً شريفاً. فعلى غرار محاولات من سبقه ممن حاول بين العلم والشريعة مثل الفارابي وابن سينا، فإننا نرى منهجه العام يتسم بطابع الوفاق، مع الحفاظ على «أصول الدين»، كما عرفناها لدى العلماء المجددين، خصوصاً منهم أبا حنيفة النعمان، خصوصاً حين نحا نحو التأليف في ما ثبت في الشريعة الإسلامية وفي ما يعارضه من العلوم الموضوعة. وبذلك، برز القاضي الدبوسي فيلسوفاً ومنطقياً في مواضع عدة من مؤلفاته، خصوصاً في كتابه «الأمد الأقصى»، إذ يستخدم مناهج هذا العلم (المنطق مثلاً) مثل القياس الاستثنائي، حيث المستثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم أو مثل قاعدة رفع التالي المستدعي لرفع المقدم في الأقيسة الشرطية ومثل تعريف الدور والتسلسل، ومثل تقسيم الأدلة إلى برهانية وجدلية وإقناعية أو مثل قياس التمثيل وغير ذلك. ولعل ما بين كتاب «الأمد الأقصى» والنظم والوقائع والأخلاق الإسلامية من التلازم والترابط، هو الذي يحملنا على تحري الأحد عشر كتاباً ومواد هذه الكتب التي اتجهت نحو دراسة العلل النفسية والقلبية التي تبطل قبول الأعمال كما قلنا سابقاً وتنحرف بالإنسان عن الطريق السوي كالرياء والعجب ونحوهما، إذ إن الدبوسي قد تحدث عن هذه العلل، كما تحدث أيضاً عن المراقبة وابتلاء الله للإنسان (بمعنى اختياره) بين عقله ونفسه وروحه، وعن المعرفة العامة ومعرفة الله الخاصة. «فالأمد الأقصى» يمتاز إلى جانب صفاء الأسلوب واستيعاب الفكرة، بالتعمق في داخل النفس البشرية، حتى يصل إلى أصل الداء الكامن فيها، وحتى يكشف أيضاً عن أصل العقدة الكامنة في داخل نفس الإنسان. ولا غرو في هذا، فالقاضي الدبوسي كان بحق صاحب اختصاص مسبق بكشف العقد النفسية وهو الذي حاز قصب السبق على غيره من العلماء فسبق عصره بكثير. وأهم ما اعتنى به القاضي الدبوسي في مسائل النظم وأصول الفقه بها وطرق تطبيقها ومقاصد الشريعة منها، إنما هو مسألة العناية بموضوع الخداع النفسي وبتفصيل القول فيه، وكيف تخدع النفس صاحبها عن الحق ويجنح به نحو الباطل وتقنعه به وتسيره على مقتضاه. ولهذا ربما، وجدنا في كتاب «الأمد الأقصى» للقاضي الدبوسي، بحوثاً مستقلة في موضوعات السلوك، بعد أن كان حديث العلماء عن السلوك مقصوراً على أقوال متناثرة لكل منهم، بحيث لم تكن تمثل بحثاً مستقلاً متكاملاً للموضوع. ولهذا اعتبر كتاب «الأمد الأقصى» من المراجع المهمة في علم النفس البشري. تماماً كما اعتبر كشفاً عن حقيقة السلوك الإسلامي الأصيل من أول ظهوره بهذا الاسم على طريقة السلف، تلك التي اعتمدت في الوصول إلى أهدافها السبل التي تعتمد على الكتاب والسنّة. نستمع إليه يقول عن أدوار الإنسان والفصول الأربعة: «ثم ضرب لك مثلاً لذلك في فصول آجالك، بربيع تخضر فيه الأرض للجالسين، وتضمك للناظرين بزهرها وأنت ممتحن فيه بحماية خضرها عن الأنعام آملاً في عقدها، ورعاية أنوارها عن الصبيان طمعاً في ثمارها. ثم صيف يأتيك من الثمار بنموذجها، ويبدي لك العروس ما هودجها، وأنت فيه مشتغل بالمؤن مذلل بالتعب» (ص 60).