بدا الرقيب السوري واضحاً وصريحاً في «وصاياه» الموجهة إلى شركات الانتاج التلفزيونية، وهي تستعد لتنفيذ مسلسلات الموسم الرمضاني المقبل: لا صورة لعلم الانتداب الفرنسي (العلم السوري السابق)، ولا ذكر لعبارات «ثوار الغوطة أو ثوار أي مكان آخر». هذا ما ورد في كتاب موجّه من رئيس «لجنة صناعة السينما والتلفزيون» السورية إلى تلك الشركات، مبرراً الطلب ب «مراعاة حساسية الظروف التي تمر بها البلاد». بالطبع، الهدف السياسي فاقع في الكتاب، فعلم الانتداب، المحظور ظهوره من الآن فصاعداً في الدراما السورية، هو العلم ذاته الذي يرفعه المعارضون السوريون، كما أن عبارات «ثوار الغوطة وغيرهم»، ممن قاوموا الانتداب الفرنسي، ستذكّر، حتماً، ب «الثوار المسلحين» في الغوطة وغيرها من مناطق ريف دمشق ممن يحاربون النظام السوري منذ أكثر من عامين. السؤال، الآن، هل يمكن أن ننسف حقائق التاريخ لأجل هدف سياسي، وهل يمكن أن نلغي رموزاً ووقائع موثقة ونطوّع صفحات الماضي بما ينسجم مع مصالح سياسية آنية؟ وما مصير تلك الأعمال الدرامية التي انتج كثير منها التلفزيون السوري ذاته، والتي تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين لتتباهى ببسالة ثوار الغوطة، ويتفاخر أبطالها برفع علم الانتداب الذي استمر من عام 1932 مروراً بالاستقلال عام 1946 وصولاً الى العام 1958 عندما استبدل بهذا العلم علم الوحدة بين سورية ومصر. في أرشيف الدراما السورية مسلسلات كثيرة تناولت تلك الحقبة مثل «حمام القيشاني» و «باب الحارة» و «الخوالي» و «ليالي الصالحية»... وسواها من الأعمال التي احتفت بالمقاومة ضد الفرنسيين، ورفعت العلم ذا النجوم الثلاث، وها هي تعليمات جديدة تظهر لتمحو من الذاكرة هذا «الإرث الدرامي البغيض». السجال يقود حتماً إلى السياسة، غير أن هذه الزاوية تسعى للابتعاد عن هذا الميدان، بالتالي ينبغي النظر إلى هذه التعليمات باعتبارها «إجراء رقابياً». عند هذا الحد يمكن القول إن الرقابة غير مخولة لأن تستهين بوقائع ورموز تاريخية على هذا النحو الفج. وإذا كانت الرقابة، في اشتباك دائم مع الفن، بيد أنها لم تتجرأ يوماً على تزييف الثوابت والمسلمات، فلا يمكن، بجرة قلم، أن نعدّل صفحات التاريخ الموثق، وأن نختزلها إلى مجرد بنود وتوجيهات تخدم رؤى سياسية معينة. أي محتوى سيكون لفيلم «أحلام المدينة»، مثلاً، لو طبقنا عليه هذا المبدأ الإقصائي؟ الثقافة السورية تتمايل وفق ايقاعات السياسة، فتارة ترتفع وتيرة النقد للفترة العثمانية، وتارة تخفت، وفي مرات تتأجج حدة المعارك ضد الانتداب الفرنسي، ثم تخمد في مرات أخرى... وهكذا يغدو «التاريخ الدرامي متذبذباً» تبعاً لموجات الخصومة والتحالفات السياسية المتبدلة، ولسنوات مضت، كنا نعتقد أن «التاريخ، فقط، يكتبه الأقوياء». ولكن علينا أن نضيف إليه الدراما، كذلك، فهي، أيضاً، باتت تكتب بمداد الرقيب وبمشيئة أسياده!