في 1970 مات جمال عبد الناصر، رئيس مصر وزعيم العرب. موته أطلق منافسة ضارية للاستحواذ على الزعامة العربية الراديكالية. في بغداد، صدام حسين الذي كان لا يزال «سيادة النائب»، رفع حاجبيه. الشيء نفسه فعله في دمشق حافظ الأسد الذي أزاح رفاقه البعثيين في العام نفسه. طفل الأنابيب «الناصري» يومذاك، العقيد الليبي معمر القذافي، لم يكتم رغبته. زعيم «منظمة التحرير» ياسر عرفات، ولأنه «السيد فلسطين»، راودته نفسه. حتى الطرفيون كهواري بومدين في الجزائر، و»الناصري» حتى ذاك الحين، جعفر نميري في السودان، تطلعوا إلى دور أكبر. لقد ماتت الناصرية عربياً في 1970. الطامحون كان كل واحد منهم يستخدم تركتها العروبية متوهماً أنها تعزز سلطته «القطرية». التنظيمات الهزيلة التي سمت نفسها «ناصرية»، وفّر هزالها برهاناً لا يُدحض على موت مؤكد. أما مصرياً، وهو الأهم، فسرعان ما انعطف وريث عبد الناصر ورفيقه أنور السادات عن خطه في السياسة الإقليمية وفي التوجه الاقتصادي، وعن تحالفه مع الاتحاد السوفياتي. وبدورهم ف «الناصريون في مصر» بدأوا ينكمشون وينزحون إلى خارج التوافقات العريضة للحياة السياسية المصرية. بعد سنوات قليلة، صاروا أضعف من «الوفديين في مصر». لقد استدرجهم الهامش إليه ونجح في ذلك. في هذه الغضون تغير كل شيء أو كاد. كامب ديفيد، في 1978 – 1979، أنهت الصراع المصري – الإسرائيلي. انهيار الاتحاد السوفياتي، بعد عقد واحد، أنهى الحرب الباردة. الوحدة العربية صارت مزحة قذافية، فيما العداء البعثي – البعثي، الدمشقي – البغدادي حوّلها فضيحة. لقد قُوضت شروط الناصرية واحداً بعد الآخر. شيءٌ ما يستيقظ الآن بعد غطٍّ في سبات عميق ومديد. إنه الفريق عبد الفتاح السيسي الذي يُحيي الناصرية. لكن الفريق يُحييها بالأغاني وبعض الشعارات ووقفات الاستعراض، فضلاً عن كتابات بعض الكتبة المتحمسين من أهل الحنين والإحباط، الذين «يذكرهم» السيسي بعبد الناصر!. غير أن إحياء الناصرية فعلياً، بما في ذلك اعتبار صاحبها دون سواه «القائد الخالد» في الدستور الجديد، يتطلب ما لا يستطيعه الفريق أو أي فريق غيره: يتطلب في الحد الأدنى استعادة النزاع مع إسرائيل، والقطيعة مع الغرب، وانبعاث الحرب الباردة التي تتكافأ فيها قوتا قطبيها المتنازعين، ورجوعاً إلى ما قبل العولمة. والحال أن تجرؤ السيسي على «إحياء» عبد الناصر باللفظ والأغاني يقول شيئاً عن السيسي وشيئاً عن عبد الناصر. فالأول، في سعيه وراء الشرعية، راح يستمدها من تجربة عسكرية وانقلابية في التاريخ المصري. وهذا بمثابة اعتذار عن ثورة يناير ونكوص إلى ما سبقها. أما الثاني فقابليته السهلة للاستخدام تقطع في أنه ميت جداً. لقد أصبح عبد الناصر في حسابات السيسي مثل قضية فلسطين عند النظام السوري أو عند «حزب الله»، جثةً معروضة للتوظيف والاستثمار. فحين يستعاد أبو ال99 في المئة ب98 في المئة، بعد نصف قرن شهد انتقال عشرات الدول إلى الديموقراطية، قل إن الأرقام والنسب لا تعني شيئاً، بل إن ما من شيء يعني شيئاً في مصر. أما المفارقة الأكبر فهي أن السيسي، بدل أن يحيي عبد الناصر، يحيي «الإخوان المسلمين»، خصومه وخصوم عبد الناصر. فهذا الطرف الذي كانت تصدعه رئاسة محمد مرسي بإيقاع يومي، تُرد إليه المظلومية التي سبق لها أن جعلته القوة التي صارها. ويُخشى، شيئاً فشيئاً، أن يغدو «الإخوان» ممثلي الطلب الديموقراطي في مصر. هذا إن لم يغدوا ممثلي المعنى السياسي في عالم يغادره المعنى.