تشهد الساحة الفكرية العربية، بوجه عام، تجاذبات أطياف فكرية إسلامية؛ (معتدلة، سلفية، جهادية) تختلف باختلاف الجهة التي تصنّفها، كما تتصادم في رؤاها المنهجية سبل إيجاد الحلول الكفيلة باستئناف عجلة النهوض الحضاري. في سيرورة البحث عن منابع هذه العواصف وأصل المشكلة، نجد أن الفكر المتشدد أُحادي الرؤية والبصيرة، يمثل أحد هذه المنابع، بما يحمله هذا الفكر المتشنج من نتائج كارثية مدمّرة تنعكس لا على حامله فحسب، بل على محيطه بأكمله. يمتاز الفكر المتشدد برغبة التملك، فالخلود والتملّك هما أقوى رغبة في الإنسان، وفي الحروب المدمّرة في تاريخ البشرية لن نجد إلا «التملّك والغضب والحسد» أحد أهم البواعث والدوافع النفسية التي تؤدي إلى هذا الدمار الهائل! إن نشأة التشدّد تبدأ من مرحلة مبكرة من عمر الإنسان، وقبل التعرّف على «الأفكار والأيديولوجيات المختلفة، ويبدأ بحب التملّك ثم الالتصاق بالذات، ثم ينشأ الإنسان المتشدّد لذاته. ومع عدم خروج الإنسان من ذاته، والالتصاق بها، إضافة إلى رغبة التملّك؛ لا بدّ أن يؤدّي ذلك إلى «البخل» ولهذا كانت ضرورة تعليم الطفل منذ نشأته «حبّ العطاء»، {ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16] فالشحّ لابدّ أن يقع في النفس، ولابدّ من الوقاية والحذر منه، والبخل هنا معناه منع الحق والخير عن الذات. ومع انحسار الشعور حول الذات؛ يُستسهل كذلك إهانة الإنسان، وإهدار كرامته، والنظر إليه على أنه مجرد رقم عددي في قطيع كبير، الأمر الذي يلغي معنى خلافة الإنسان عن الله في الأرض. ولكي يلبّي الإنسان «رغبته» في الاجتماع، فإنه يبحث عن «المتطابقين نفسيّاً» معه ليشكّلوا بوجودهم «ذاتاً كبيرة» يشعرون فيها بالراحة والسعادة، ويمنعون أي أحد يحاول الاقتراب منها ولو حتى بإثراء التنوّع، فهذه «الذات الكبيرة» لا تقبل أي شركاء مختلفين عنها، إنها تشعر تجاههم بالتنافر والعدوانيّة والتطفّل على هذا الوجود. ولأن التشدّد يؤمن بفردانيته، فإنه يسعى إلى تجزئة الحقّ ليتوافق مع نفسيّة المتشدّد، ويكون الغرض من ذلك ليس هو «الحقّ» إنما هو حمل ما تريده الذات منه، وما ترغب فيه. لتنشأ «الأيديولوجيات» والأحزاب والجماعات، ويمثل التشدّد والتطابق النفسيّ أهمّ رافد لها، وتحمل كل أيديولوجيا جزءاً من «حقّ» يُمثل كل منطقها وفكرها، ويتلقّاه الأتباع على صورة «الحقّ المطلق»، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تلقي الرؤية الأحاديّة على أنها منبع العلم والحقّ وتفسيره، يجعل من الصعب على عقل المتشدّد قبول إدخال أيّ لواحق عليه، فالانغلاق المعرفيّ يضحي السبيل الوحيد للاستئثار بالحقّ ونشره على الأتباع. فالاختلاف بين البشر سنّة الله في الخلق، ولأن الخلافات في النظر والرؤية تقع نتيجة الاختلافات النفسيّة والطاقات العقليّة بين البشر، وهي مسألة مفيدة بالنسبة إلى حمَلة الرسالة، ولا تشكّل أدنى عائق أمام حمل الرسالة، وإلا لخلق الله الناس متطابقين، ولكن في حالة التشدّد لا يوجد شيء اسمه «اختلافات»، فكل اختلاف عند المتعصّب باطل، وإنه ليعجز أن يتحمّل خلافاً. وكل خلاف يعني اعتداء على عقل المتشدّد، وعملية إرباك له، تفقده التوازن، فلا يشعر بالراحة من المختلفين معه، فيهرع إلى «وطن الذات الكبيرة» عندها يحطّ رحاله، ويطفأ عقله، فالجميع متّفقون، ونحن أهل الحقّ، وكل شيء على ما يرام. يميل العقل المتشدّد إلى عمليّة الدفاع فقط عن وطنهم، لا الهجوم على أوطان الآخرين! ويُؤمّنون وطنهم من أي عملية نقد أو تقويم أو تقييم أو مراجعة أو تصحيح، لأن ذلك يعني ببساطة «انهيار» الوطن كله، فمجرّد مراجعته تُخرجه من حالةِ «الإطلاق - المطلق» إلى حالة «النسبيّة - النسبيّ» لذا يكون الخوفُ من النقد والتقويم مسألة مرعبة ومقلقة غالية القلق لأهل هذا الوطن، لأن أيّ نقد وتقويم مهما كان عادلاً وصحيحاً سيُخرج أخطاء وربما كوارث! الأمرُ الذي يُزلزل «المطلق» ويجعله قيد المراجعة والتصحيح. في المقابل، يلجأ العنيفون من المتشدّدين إلى الهجوم بدلاً من الدفاع عن الحقّ، والإغارة على أوطان الآخرين، وتتمّ عملية تأمين وطنهم من خلال إلقاء تهمة التكفير لمن يحاول إقرار إمكانية الخلاف معهم، ويأتي التكفير كردّ فعل للكفر، وطرد من يظهر عليه لين أو هدوء أو صبر في مواجهة المخالفين، واعتبار كل مخالف لهم إما متخاذلاً أو ضعيفاً أو خائناً أو مُنظّراً، واستعداء الجميع، حتى الصديق والمحايد، فلا مجال أن يدخل في هذا الوطن ما ليس منه. وهنا تقع عملية هجوم بين الأوطان المختلفة للمتطابقين نفسياً، وهم على ملّة واحدة. يسبّب التشدّد في النهاية حالات من «الإفلاس الفكريّ» نتيجة «التخلّي عن الرسالة»، وعندما يحدث هذا الإفلاس يبدأ الظهور الخفيّ للفكر «القدريّ الاتكالي» الذي ينتظر الخوارق ومعجزات لتنزل من السماء، لأنه أدى كل ما عليه، وليس هناك شيء يحتاج إلى توفية أو تصحيح أو علاج أو مراجعة أو تغيير.