استغل المخرج كريستوفر نولان الطبيعة الساحرة والغريبة في كندا ليحقق فيها فيلمه الجديد «بين النجوم». كان روبرت فلاهرتي عبقري السينما الوثائقية يقول عن تلك الطبيعة إنها طبيعة درامية من دون أفلام. فكيف إذا أمكن صناعة فيلم فيها بتمويل من بارامونت ووارنر برذر معاً؟ ربما لا ينبغي التسرع في الإجابة هنا، فأفلام الخيال العلمي عادة ما تجيء مقتصدة في التعبير عن المشاعر الإنسانية. يخيل للبعض أنها عبارة عن خرائط فيزيائية ومعادلات لا تنتهي، بخاصة أن المخرج هنا تعامل مع كيب ثورن، وهو عالم فيزيائي لديه نظرية عن إمكان عبور الثقب الدودي من جانب البشر. تحرّر من الجاذبية مع هذا، فإن فيلم نولان على عكس ما كان يمكن توقعه: «بين النجوم» فيلم معمول بعواطف ومشاعر تليق بأبطاله. تماماً كما صرح نولان قبل أشهر وهو يستعد لتصويره. نحن في الفيلم في الأسبوع الأخير الذي يسبق الفناء. فناء كوكب الأرض الذي عاد بسبب أوبئة فتاكة أهلكته، إلى مجتمع زراعي، ولكنه وفق وكالة «ناسا» الفضائية هلاك موقت، وينبغي للعودة عنه اكتشاف ما هو واقع وراء الثقب الأسود، وتحرير البشرية من الجاذبية من طريق التشويش عليها بغية العبور إلى ثلاث مستعمرات كويكبية وراء هذا الثقب قابلة للحياة عليها. تستدرج الوكالة بطريقة مركبة وموحية كوبر (ماثيو ماكانواي) وابنته الصغيرة مورفي (ميكنزي فاي) إلى المقر الرئيسي لها، حيث يعرض عليه البروفيسور غراند (مايكل كين) قيادة المركبة التجريبية «أليعازر» باعتباره أحد أمهر مهندسي «ناسا» هو الذي أراد من قبل أن يكمل حياته في الزراعة، على رغم أنه ليس مزارعاً، فالتحولات العميقة التي تضرب الكوكب الأرضي دفعته للعمل مزارعاً مع ولديه ووالد زوجته المتوفاة دونالد (جون ليثو)، - الحقوقي الكبير سابقاً - للوصول إلى هناك وإكمال بحوثه التي استغرقته طويلاً. «اللحفة» هو المصطلح الذي يلزم لتعريف هذا الوباء الناتج من غبار وعواصف ترابية تدفع للشعور بقرب فناء الأرض. «ناسا» التي تعد تلك المستعمرات الثلاث بغية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الجنس البشري، تعتبر أن كل ذلك موقت. لم يكن ممكناً كوبر أن يرفض على رغم تعلق ابنته مورفي به. وبالطبع عند مورفي ستتوقف الحكاية كلها، فهي التي ستستنبط من الغبار فكرة الأشباح التي تزورهم في البيت. الأب الذي لا يصدق رؤى ابنته الصغيرة التي «تربك معلماتها بذكائها الحاد». وهو على رغم مناشدتها له بالبقاء بينهم، يقرر المضي بالرحلة التجريبية برفقة فيزيائي وجغرافي وابنة البرفيسور إيلينا غراند (آن هاثواي). حيث سيكون أمام كوبر القيام بعمل أقل من مهاراته من أجل خدمة الغير ولإكمال واجب المحبة تجاه الآخرين، ليس بالضرورة ولديه، عائلته، بل أولئك المجهولين من سكان الكوكب. إنه موت تسمح به «ناسا» من أجل مجد الإنسان الأغلى والأسمى. هذا ما تود قوله، وهذا ما يجب على كوبر فهمه والقيام به. هنا، لا يمكن القيام بالعجائب إلا من خلال الحب للآخر، وكأن غريزة البقاء هي الملهم بوجوب قيامة أخرى على كواكب جديدة هي ميلر، إدموندز، ومان. الهبوط على كوكب مان يتطلب إسالة الزمن. الساعة الواحدة تعادل سبعين ساعة. العودة إلى المركبة تكشف أن الفيزيائي نام 23 سنة في سبات طويل بانتظار عودتهم. مع أن كل الذي فعلوه هو الهبوط بالمركبة التجريبية وإيقاظ مان (مات دايمون) من سباته المدوي بعد أن فقد الأمل برؤية وجه بشري. الإيقاظ لا يتم إلا لأن الحكاية يجب أن تأخذ البعد التأويلي لفكرة الانبعاث. مان لم يمت. كل الذي فعله أنه نام، وعلى أعضاء البعثة إيقاظه. وهو كان قد قرر تسليم حاله للنوم في كبسولة خاصة بالإسبات. ثم نكتشف أن مان لديه بعد قيامته أجندة مختلفة عن تلك التي يسعى إليها كوبر. ففيما يقرر الأخير العودة إلى الأرض يتهمه مان بأنه يسعى وراء عائلته فقط، ولا يريد العمل من أجل مصلحة البشرية، فيحاول أن يعطل بدلته الفضائية في كوكب مشبع بالأمونيا ليقتله في صراع يذكر بصراع الأخوين الوحيدين على الأرض. لكن إميليا تنقذه. ويفشل مان بالالتحام بالكبسولة الفضائية بغية الاستيلاء على مركبتهم، ويقتل بنتيجة الضغط الانفجاري الهائل الذي ينتج من فشل الالتحام. ما نتركه وراءنا «للعبور من أي مكان ينبغي ترك شيء وراءك» هكذا يقول نيوتن، وهكذا يخبر كوبر إميليا التي تنفصل مركبتها لتنزل على كوكب إدموندز. إدموندز هو حبيبها في الواقع، وسُمِّي الكوكب باسمه ولكنه لم يعد نهائياً من بعثته الاستكشافية. يعبر كوبر الثقب الأسود، ويجد نفسه عالقاً في عالم من الأبعاد الثلاثية، مدركاً أن كل ما يراه أمامه إنما هو غرفة ابنته الصغيرة مكررة في ملايين الصور. أما الشبح الذي يقف وراء الكتب فهو شبحه هو. هو من كانت تراه مورفي الصغيرة. هنا يمكن مورفي الشابة (جيسيكا شاستين) التي انضمت إلى «ناسا» أن تحل المعضلة التي لم يكملها البروفيسور غراند بسبب أنانيته. أو هو في الواقع حلَّها وخدع الجميع، بمن فيهم ابنته التي أرسلها في رحلة لا تستعاد. من طريق موجات تشويش الجاذبية تستعيد مورفي الشابة الحكاية كلها. تنقذ أباها الذي يصحو في مستعمرة كوبر. يفاجأ باطلاق اسمه عليها. يقولون له إنها سميت باسم ابنته. يسأل عن مكان إقامته ويعرف أنه يعبر بمحاذاة كوكب زحل ويكون قد أصبح عمره 124 سنة، وابنته مورفي قد أصبحت جدة عجوزاً وحواليها أحفادها. يعود شاباً في هيئته، وهي طاعنة في السن على سرير الموت. نتعرف هنا في النهاية إلى رحلة كريستوفر نولان في نفق المشاعر الإنسانية. صحيح أنها جاءت متأخرة كثيراً، لكن المعجزة حصلت. تغلبت العواطف على ما عداها. القيامة بين النجوم من أجل حياة جديدة. قيامة أليعازر الذي يسلم نفسه للنوم فقط. لا تقبل مورفي أن يشهد على موتها. تقول له لا يجب على الوالدين أن يشهدا موت أحد من أولادهما. هذا يمكن الأحفاد فقط. وعندما يسألها إلى أين يمكنه أن يذهب، تشير عليه بالذهاب إلى كوكب إدموندز: هناك إميليا تنتظره. ولم يعد أمامه سوى أن يسرق مركبة من «ناسا» والذهاب إلى هناك. فيلم «بين النجوم» أثار بعضهم لجهة عدم إمكانية تصديق نظرية كيب ثورن عن إمكان البشر عبورهم الثقب الدودي الذي لا يفلت نظرياً ما يعبر خلاله إطلاقا. ولكن، إذا استثنينا هذه الملاحظات الفيزيائية، فسنجدنا أمام فيلم عن بشر بقلوب وأحاسيس، وسنرى أن العبور من الثقب هو في الواقع مشابه لعبور في أعماق الإنسان السحيقة. ليس أبعد من هذا التصنيف المونتاج المتوازي البارع الذي نفذه كريستوفر لملحمة العبور الفضائية، مع الحرائق الهائلة التي تأتي على المحاصيل الزراعية برفقة الموسيقى الخلاقة لهانز زيمر. الفيلم الذي خرج إلى الصالات العالمية مطلع الشهر الجاري وصل أيضاً إلى الصالات اللبنانية، ويعرض فيها.