الإثراء بوسائل غير اقتصادية حالة معروفة في الظروف العادية بدرجات مختلفة، يعمل من أجله عادة ضعاف النفوس من أصحاب السلطة والنفوذ من طريق الرشاوى والعمولات ل «تيسير» الأعمال، أو لتجاوز القانون، بالتحايل عليه أو تعطيله. هذه الحالة كانت منتشرة في سورية قبل انتفاضة السوريين ضد نظام الحكم في بلدهم في آذار من عام 2011، جراء الطبيعة الفاسدة للنظام، وكانت من الأسباب الرئيسة لانتفاضتهم. غير أن لجوء النظام إلى العنف لقمع انتفاضة السوريين، وعدم الاستجابة إلى مطالبهم المشروعة، سرعان ما خلق بيئة عنفية معممة، سمحت بدورها بظهور العديد من الظواهر التي كانت غير مألوفة، بل مستهجنة أخلاقياً، عداك عن أنها تقع تحت المساءلة القانونية باعتبارها جرائم. الصراعات الداخلية للأسف تبيح المحظورات، فتحيد منظومة القيم العامة الرافضة لها، بل تنتج منظومة قيم جديدة تبررها، كما أن القانون ذاته وأدوات تنفيذه تُعطل في الغالب الأعم، أو تُكيف بما يغطي عليها، خصوصاً عندما يكون أحد من رجال السلطة، أو من أصحاب النفوذ طرفاً فيها. في مناخ الحروب والصراعات الداخلية العنيفة، ثمة ما يسمى بالاقتصاد السياسي للعنف، أي الاستفادة من مناخ الصراع لجني الثروة بوسائل غير اقتصادية. الهدف في هذه الحالة واحد، وهو الحصول على الثروة، لكن الوسائل قد تتعدد كثيراً. ثمة من يستغل مناخ العنف للتجارة بأدواته المختلفة، وهناك من يتاجر بكل أنواع الممنوعات، ومن يعمل على تهريب الناس إلى الخارج مقابل النقود، وهناك من يخطف لطلب فدية وغيرها. في ظروف الحرب الشاملة التي تجري على الأرض السورية، فإن ظاهرة جني الثروة بأدوات ووسائل غير اقتصادية تنتشر كثيراً، وتمارسها أجهزة السلطة ومعارضوها، وكذلك مواطنون عاديون. واللافت فيها أنها صارت أكثر تنظيماً، تقوم عليها عصابات محمية من أجهزة السلطة ذاتها، أو من أصحاب النفوذ. تتعدد كثيراً أسباب هذه الظاهرة، منها ما هو سياسي له نتائج اقتصادية، ومنها ما له أسباب اقتصادية أساساً ومآلاً. من المعلوم أن ظاهرة الاعتقال لأسباب سياسية تكبر كثيراً في ظروف الصراع المسلح، فتلجأ السلطة، بصورة خاصة، إلى اعتقال خصومها السياسيين حتى ولو تطلّب الأمر تجاوز القوانين المعمول بها أو التحايل عليها، فوفق تقارير عديدة صادرة عن هيئات الأممالمتحدة المعنية، وكذلك عن منظمات حقوق الإنسان، فإن السلطة السورية تعتقل نحو مئتي ألف سوري لأسباب سياسية، أغلبهم لم يشارك في عمليات عنف. وعلى رغم أن السلطة أعلنت رسمياً وقف العمل بحالة الطوارئ، لكنها لم توقف سيران مفعول كثير من القوانين الاستثنائية التي كان معمولاً بها في ظلها، بل سنت قوانين جديدة أكثر تشدداً. إضافة إلى ذلك، فإن العائد الاقتصادي للاعتقال السياسي صار جزءاً أساسياً من عمل العاملين في أجهزة السلطة المسؤولة عن تطبيق القانون، تستهدفه على شكل فدية أو رشوة لقاء إطلاق سراح من تعتقله، أو تبرئته من قضية مدنية أو غير مدنية مرفوعة ضده. بالنسبة إلى هذه الأجهزة، صارت تهمة الإرهاب من أكثرها عائدية اقتصادية، ولذلك فهي توجهها بسهولة لافتة لكل من يقع في قبضتها. ثمة تقديرات لحجم الأموال التي يتم جنيها عبر هذه المسالك السياسية بما يزيد عن مئات الملايين من الليرات السورية سنوياً. على المقلب الآخر، فإن المجموعات المسلحة المعارضة مارست الخطف والاعتقال لأسباب سياسية واقتصادية تتعلق بالصراع المسلح، ليس فقط ضد جنود النظام ومناصريه، بل بعضها ضد بعض. ومع أن ظاهرة خطف واعتقال، وحتى تصفية المخالفين في السياسة أو الأيديولوجية أو المنافسين على النفوذ، كان من حيث الأساس لتحقيق مزيد من السيطرة والهيمنة لهذه المجموعات، لكن في جميع الحالات لم يكن الهدف الاقتصادي غائباً. غير أن ما يلفت الانتباه هو أن قسماً من السوريين الذين شاركوا في العنف كان هدفه منذ البداية جني الثروة، وما إن تحقق له ذلك حتى بدأ بتسوية أوضاعه لدى السلطة، أو مغادرة البلد. هذه الظاهرة شملت بعض الأجانب الذين قدموا إلى سورية بذريعة القتال نصرة لإخوانهم في العقيدة أو في السياسة ، لكن هدفه الحقيقي كان جني الثروة. آلاف الأمثلة، من مختلف مناطق سورية، يمكن سوقها تأكيداً لما ذهبت إليه أعلاه ، لكن بودي قول بضع كلمات حول ظاهرة خطف مواطنين عاديين لطلب فدية مالية في الساحل السوري، حيث يفترض أن السلطة موجودة، لكنها فعلاً غائبة، بل كثيراً ما تتواطأ أجهزتها أو بعض النافذين فيها للتغطية على الخاطفين وحمايتهم. المواطنون في كثير من مناطق الساحل يعيشون حالة رعب حقيقية، نتيجة تفشي ظاهرة الخطف، ولا توجد جهة رسمية معينة يمكنها أن تطمئنهم وتحميهم، على رغم أن أغلب رموز هذه المجموعات وقادتها معروف لدى السلطات المعنية. ومع أن الفدية التي يطلبها الخاطفون تتناسب طرداً مع الأوضاع المادية للمخطوفين أو لذويهم، وتراوح بين بضع مئات آلاف الليرات السورية وحتى بضع عشرات الملايين (وأحياناً تطلب الفدية بالعملة الصعبة)، إلا أن الخاطفين يقتلون المخطوفين، في أغلب الحالات، بعد الحصول على الفدية، خصوصاً إذا تعرفوا إليهم. هذه الواقعة دفعت أبا أحد المخطوفين إلى الإعلان عن جائزة تبلغ مئة ألف دولار لمن يقتل خاطف ابنه، وهو معلوم، وذَكَرَه بالاسم، قبل أن يشمله عزرائيل بعنايته لاحقاً، فوفر على الأب خسارة نقوده بعد أن خسر ابنه. لقد أدى تفشي حالات الخطف في الساحل السوري، خصوصاً لأبناء الأثرياء، إلى دفعهم للهجرة خارج البلد، ونقل أموالهم ومصالحهم معهم، الأمر الذي تسبب بخسائر اقتصادية وبشرية كبيرة للبلد. في الحالة الطبيعية، يكون منع هذه الظاهرة من خلال تحمل السلطة مسؤولياتها، وضبط أجهزتها، وتفعيل القانون، ورفع الغطاء والحماية عن الخاطفين أياً كانوا، لكن ثمة شك كبير بتنفيذه، لكونه يحتاج فعلاً لهيمنة منطق الدولة، وليس منطق السلطة، وهو على كل حال صعب التنفيذ في الظروف الراهنة، كما يقول مبرراً ذلك كثير من مسؤولي السلطة ذاتهم. لهذا السبب بدأ بعض المواطنين يلجأ إلى ما يسمى «الحماية الذاتية»، مما عقد كثيراً من وضعية «اللاأمن» في البلاد، لكنه زاد في رواج سوق اقتصاديات العنف. إنها حلقة مفرغة يدفع ثمنها المواطنون العاديون. * كاتب سوري