يخيم الذهول على الشارع المسمّى بأنه «عريض» الذي يربط ما بين منطقتي بئر العبد وحارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية. يضيق بالسيارات المتفحمة والمحطمة والمركونة على جانبيه بالاتجاهين، وفق مواقف مخصصة لها، مثلما يضيق بحطام الزجاج الذي تقذفه المكانس والعصي من النوافذ والأبواب التي تحطمت لحظة الانفجار الذي وقع عصر أول من امس. لا يزال سكان الشارع الضيق نسبياً، في حيرة من أمر هذا الانفجار الذي يفترض، في قاموس رعبهم اليومي من السيارات المفخخة، ألاّ يستهدف شارعهم، فالمراكز الحزبية بعيدة منه، وهو ليس إلا معبر إلى تعاونية من هناك وسوق تجاري من هنا، يتوسطه مطعم ومقهى للنراجيل وبعض المحلات لبيع الهواتف ومصابيح الإضاءة. والسكان تتقاذفهم الروايات التي لا يعرف من ينسجها عن الانفجار والمفجر، تارة أن فاناً أعاق مروره ففجر الانتحاري السيارة في منتصف الشارع، وتارة أنه ركنها في مكان خطأ وحاول النزول منها فانفجرت به وبالشارع كله، وتارة ثالثة أن السيارة مفخخة من دون أن يدري سائقها، وثمة من طلب إليه التوجه إلى المكان وانتظره فيه وفجره بواسطة جهاز تحكم من بعد. ساحة الانفجار مزنرة بالشرائط الصفر، والسيارات المتضررة مرقمة بعد الكشف عليها، ورجال الأدلة الجنائية لا يزالون يقلبون الحطام ويعاينون الشظايا الحديد في الأرض وعلى الشجر وخلف حجارة الأسمنت وفي الطبقات العلوية من الابنية المتضررة بواجهاتها ومحتوياتها، وعناصر الجيش وقوى الأمن بدورهم يبحثون ويدققون، حتى عناصر من «لجنة الترميم في «حزب الله» يحصون الأضرار ويسجلون أسماء المتضررين. وخلف العوائق الحديد التي وضعت لإبعاد الناس عن الموقع المحظر عليهم وعلى وسائل الإعلام وقف طابور من تلامذة مدرسة المصطفى يحمل كل منهم زهرة بانتظار السماح لهم بالدخول إلى موقع الانفجار، قالت احدى المعلمات ل «الحياة»: «إن بين الضحايا الفتى علي خضرا (17 سنة) الذي جرى التعرف الى جثته مساء امس، كان غادر المدرسة وتوجه إلى منزله القريب من موقع الانفجار ثم ترك البيت وعبر على دراجته النارية في هذا الشارع فاستشهد، وقد تعرف إلى جثته أهلُه وبعض أصدقائه على رغم انتظارهم نتائج فحوص ال «دي أن آي». وتداعوا اليوم إلى المكان لوضع زهرة تحية لروحه». عَبَرَ الطابور يرافقه مدير المدرسة الشريط الأصفر الأول وسمح لهم بوضع الزهور تحت شجرة صغيرة تتوسط الشارع وسلمت من حريق السيارات وغادروا بعدما التقطوا الصور. تتقاطع روايات الناجين من الانفجار حول وضع الشارع قبل حصول التفجير وبعده وخلال اندلاع النيران وكيف هب الجميع للمساعدة، تحدثوا عن امرأة نزلت من سيارتها وهي تحترق وكيف تمت نجدتها ونقلها إلى المستشفى، وعن مسعف انقذ مصابين ثم انفجرت سيارة كانت تحترق فحولته الى مصاب بدوره. وتتردد في أنحاء الشارع أخبار عن هوية الانتحاري المفترض أنه فجر السيارة، أنه من وادي خالد، فيزداد منسوب الذهول بين الناس، وتتوقف التعليقات في شأن ما يحصل، وتتشدد الإجراءات الأمنية، خصوصاً أنها تترافق مع صلاة الجمعة فيخضع المصلون إلى إجراءات تفتيش فردية من قبل عناصر الانضباط في «حزب الله». التحقيق والمفجر وإلى موقع الانفجار وصل النائب العام التمييزي بالإنابة القاضي سمير حمود ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر، واطلعا على الأضرار الناتجة منه وعلى التحقيقات الجارية والأدلة التي جمعت. وإذ تركز التحقيق على التأكد من هوية صاحب الأشلاء التي وجدت في مكان الانفجار لمعرفة ما اذا كان هناك انتحاري، أُعلن العثور في مسرح التفجير على إخراج قيد إفرادي باسم قتيبة محمد الساطم والدته فوزية السيد (مواليد أول آب 1994) رقم سجله 436. وتبين لاحقاً أن الشاب كان غادر منزل والده في بلدة حنيدر في عكار في 28 كانون الأول (ديسمبر) 2013 ولم يعد، وأبلغ والده في حينه مخفر القبيات عن اختفائه. وتم استدعاء والدته بعد العثور على إخراج قيده إلى مركز مخابرات الجيش في وادي خالد لأخذ عينات لإجراء فحص الحمض النووي للتأكد من هويته وما إذا كان هو الانتحاري الذي فجر نفسه، وجرى التحقيق مع والد قتيبة في مركز مخابرات الجيش في طرابلس. وانتقل الى بيروت لاعطاء عينات لفحص ال«دي ان اي». وفي انتظار ظهور نتائج فحص ال «دي أن آي»، فإن مصادر أمنية أكدت أنه لا يمكن البناء على إخراج قيد تم العثور عليه في الطبقة السادسة من أحد الابنية السكنية في محيط مسرح التفجير، وإنما القرينة الأكيدة هي الفحص الطبي ومن بعدها تجري عملية التحقيق في داتا الاتصالات لمعرفة بمن اتصل ومن اتصل به. وتوقفت مصادر أمنية عند الطريقة التي زرعت فيها المواد المتفجرة في السيارة، اذ جرى توزيعها في البابين الأماميين فجاء عصف الانفجار قوياً على جانبي السيارة يميناً ويساراً، ولم يحدث حفرة تحت السيارة. تنظيف موقع التفجير ولاحقاً، أمر القاضي صقر بتسليم الجثث الأربع إلى ذويها، وهي تعود الى: إيمان حجازي وابنة زوجها ملاك زهوي (جرى تشييعهما امس في مجدل سلم - قضاء مرجعيون بمأتم مؤثر) وعدنان عوالي (شيع في بلدة تولين - قضاء مرجعيون) وعلي خضرا. وجرى رفع السيارات من موقع التفجير وإزالة الحطام وفتح الشارع جزئياً أمام السكان. وتفقد وزير الداخلية مروان شربل الموقع يرافقه مسؤول الارتباط والتنسيق في «حزب الله» وفيق صفا، وتوجه إلى المجرمين مرتكبي الأعمال التفجيرية في لبنان بالقول: «مهما فعلتم لن تكون هناك فتنة طائفية في لبنان». ووصف من قام بالتفجير بأنه «وقح، إذ كان آخر همه أن تعرف هويته، فنحن تمكنا من معرفة السيارة ومن أين أتت وكيف جاءت والآن نحقق في هوية السائق، علماً أن والده كان أبلغ عن اختفائه وليس عن خطفه». لبنان وفي ظل جريمة التفجير الثانية خلال أسبوع، يعلن الحداد اليوم على الضحايا وفق مذكرة إدارية أصدرها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وفيها دعوة إلى «التوقف عن العمل لمدة ساعة اعتباراً من الساعة الحادية عشرة ولغاية الساعة الثانية عشرة ظهراً على كل الأراضي اللبنانية، ودعوة إلى اللبنانيين للوقوف لمدة خمس دقائق أينما وجدوا في الثانية عشرة ظهراً استنكاراً لهذه الجريمة النكراء وتعبيراً لبنانياً وطنياً شاملاً ضد الإرهاب وتضامناً مع عائلات الشهداء الأبرار والجرحى وعائلاتهم». وكان الأمين العام ل «اللجنة الوطنية لإدارة الكوارث والأزمات» الأمين العام ل «الهيئة العليا للإغاثة» محمد خير، رافق أعضاء لجان الكشف والمسح في الهيئة، إلى مكان الانفجار واطلع على حجم الأضرار. وأعلن أن «بعد انتهاء الأدلة الجنائية من عملها سنباشر غداً إزالة كل المعوقات من موقع الانفجار، وستبدأ اللجنة مسح الأضرار بعد أخذ الإذن من قائد الجيش، بتوجيه من الرئيس ميقاتي وبالتنسيق مع وزارة المال، لتقديم المساعدات السريعة للمتضررين». في الشوارع المحيطة بالشارع العريض، أعناق تشرئب لرؤية ما خلفه الانفجار ولو من بُعد، وتستمر الحياة في الشوارع المحيطة لكن الناس يعبرون بوتيرة سريعة، ويهمس احد العابرين «أمعقول ما يجري؟ انفجارات يُعرف مرتكبوها وأخرى تبقى مجهولة الفاعل، أيجوز أن يموت الناس كرمى لعيون القيادات الحزبية وقراراتها؟».