فيما كان السجال قديماً ينتج أفكاراً ويولّد رؤى ويحفز على مراجعات جذرية للنصوص والتصوّرات، نراه الآن يتراجع عن وظيفته الأساسية، ويتضاءل إلى حد الاكتفاء بإنتاج الشتائم، وابتكار السّباب، والحط من الكرامة الشخصية، وإيقاظ ما هجع في النفس من ضغائن وشرور. والمتأمل الآن في أحوال العرب العاربة، يرى أن السجال يتجلى لا بصفته مثاقفة تغذّي الأفكار وتثريها، وإنما باعتباره «مكاسرة» بين خصمين لدودين يتعاركان بالكلمات، ولا يتورعان عن أن يشتبكا بالأيدي، أو يتقاذفا بالأكواب وبكل ما يتراءى تحت الأيدي أو الأقدام، بل إن الأمر قد يتطور إلى حوار بالمسدسات، كما حدث خلال ندوة تلفزيونية، كانت تبثها على الهواء مباشرة، إحدى الفضائيات الأردنية، وكان «بطلَها» نائبٌ في البرلمان! ويبلغنا التاريخ الحديث والقديم والغابر في القدم عن محاورات أنتجت تصورات فلسفية غيّرت اتجاه النظر إلى الكون مثلما كان أثر محاورات الفيلسوف اليوناني سقراط التي نشرها تلميذه أفلاطون، وكانت في مجملها تتساءل عن معاني العدالة والخير والحق والجمال. ثم يسعفنا التاريخ العربي الإسلامي بسجالات أدبية وفلسفية أنتجت روائع في الشعر، ويكفي أن نتذكر نجوم الشعر في العصر الأموي: جرير والفرزدق والأخطل الذين أسفرت سجالاتهم التي سمّيت «مناقضات» عن نصوص فنية أثرت الشعر العربي، ورسخت قواعد جديدة في النظر إلى دور الشعر ووظيفته. كما أسفر رد ابن رشد على الغزالي عن كتاب «تهافت التهافت» الذي يمثل أيقونة في السجال الذي يناقش الأفكار ويحاورها ويحاول نقضها بأساليب منطقية لا تزعم اليقين المطلق والصواب النهائي. وفي الحضارة الغربية الكثير من الأمثلة التي تؤكد دور المساجلات الفكرية والأدبية والفنية في إثراء التصورات، وتعديل الأفكار، ونقدها، وأحياناً بيان بؤسها، وعدم امتلاك تلك الأفكار القدرة على العيش والبقاء، ومفارقتها العقل والمنطق. الآن، في أزمنة العرب المرميين على قارعة التاريخ، نجد أن السجال لا يفتقر إلى شروطه المنطقية فحسب، وإنما إلى المعايير الأخلاقية، وأضحى من يود التورّط في نقاش القضايا العامة معرّضاً للنهش والاتهام والتخوين وتبخيس الشأن، لأن ثمة من لا يتورّع عن اقتراف الموبقات من أجل ما يتوهم أنه «إفحام» لخصمه، وهزيمته بالضربة القاضية. ثم إن الحوار ينتقل، بقدرة قادر، من النص إلى الشخص، فيتلبّس المناقش أو المحاور دور المفتش السري أو المخبر الذي ينبش تاريخ الشخص الذي يختلف معه في الرأي، ويحاول استثمار محطات مجتزأة من السياق من أجل إدانة الخصم، وفضحه على الملأ، كما يتوهم. وفي السياق ذاته، لا يتورع المناقش عن الدخول إلى العالم الشخصي والحميم لخصمه من أجل توظيفه في كسر إرادته وتركيعه وتأثيمه وأبلسته، وكل ذلك يجري لأن المحاور قال رأياً مغايراً أو شجاعاً أو ناقداً لما يعتبره بعضهم أيقونات مقدسة لا يجوز الاقتراب منها، وكل من يتورط في ذلك فإن مصيره الموت، بمعناه المعنوي، وربما الفيزيائي، والذاكرة في المعنى الثاني حبلى بالأمثلة والأسماء! وأمام هذا الواقع المرير، فإن الكاتب أو المفكر أو الشاعر الذي يحترم نفسه، إما أن ينسحب من التورط في سجال لا طائل منه، لأنه الخاسر في النهاية، فأدوات اللعبة لا يمكنه إتقانها، وإما أن يعتزل الفضاء العام، وينأى بنفسه عن السفاسف وصغائر الأمور. وقد شكا، لكاتب هذه السطور، الشاعر الراحل محمود درويش من لحظة مشابهة داهمته، حين دُعي إلى المشاركة في إحياء أمسية في 15 تموز (يوليو) 2007 بمدينة حيفا الفلسطينية المحتلة، بعد غياب عن شعبه دام 35 عاماً. درويش كان قبيل الأمسية متوتراً وغاضباً، لأن فريقاً من خصومه شنّ حملة تخوينية واسعة النطاق اتهمه فيها بأنه يزور حيفا عبر بوابة الإسرائيليين، فيما جرى توزيع منشورات وتعليقها كتب عليها «سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون شيكل». درويش حمل غضبه الشديد، وتوتراته الداخلية الأشبه بالحمم البركانية، ويمّم صوب وطنه، وأحيا أمسية اعتبرت أجمل أماسيه، فانتصرت الفكرة، على رغم أن الألم بقي عالقاً بالقلب. * كاتب وأكاديمي أردني