ثمة وجوه لم تنل ما تستحقه من اهتمام ودراسة على رغم سطوعها وتميزها في الحراك الفكري العربي المعاصر. ولعلّ في طليعة هؤلاء الأديب والمفكر رئيف خوري (1913 - 1967)، الذي يتناوله احمد علبي في الذكرى المئوية لولادته في كتاب «رئيف خوري، داعية الديموقراطية والعروبة» (دار الفارابي)، مسلطاً الضوء على إنجازاته الأدبية والثقافية ومواقفه الوطنية والقومية. فهذا الأديب والمفكر والمناضل شبه المغمور بالنسبة إلى عدد من مثقفينا اليوم، لا تزيده الأيام إلا قرباً منا. مع أن الإهمال عموماً يلف الرجل منذ وفاته الخاطفة عام 1967... لأن جزءاً واسعاً من تراث هذا الإنسان المجدد ما برح موزّعاً في المجلات والصحف التي أودع فيها وميض أفكاره المستنيرة شأن «المكشوف» و «الطليعة» و «الطريق» وغيرها من المجلات المجهولة الضائعة مثل «الدفاع» التي أصدرها بنفسه في دمشق عام 1941. تناول المؤلف المحطات الإنسانية في حياة رئيف الغنية بالعمل والإبداع بدءاً من كتابه «معالم الوعي القومي» الذي ألّفه عام 1941 رداً على أستاذه قسطنطين زريق. رئيف، كما يقول المؤلف، كان في كل ما خط وألّف محباً للتراث العربي حباً غائراً في وجدانه، الأمر الذي تؤكده قائمة كتبه (28 كتاباً) منذ «امرؤ القيس» عام 1934 حتى «الأدب المسؤول» عام 1968. ويذكر الثوار من أهل فلسطين رئيفاً الذي نافح عن قضيتهم منذ لاح الخطر الصهيوني، ففي عام 1935 كان رئيف خوري يدرّس في القدس، وكان يلتقي مع كوكبة من اللبنانيين من أصحاب الآراء التحررية مثل سليم خياطة وإبراهيم حداد مؤسس مجلة الدهور ورجا حوراني الذي عمل رئيساً لتحرير «الطليعة». وعندما اندلع الإضراب عام 1936 في وجه الهجرة اليهودية كان رئيف حاضراً على نحو نشط خطيباً في الجماهير، وقد أخرج في هذه الفترة كتيّبه «جهاد فلسطين» الذي حمل توقيع «الفتى العربي» ونشر في دمشق عام 1936، ورصد ريعه للمجاهدين الفلسطينيين. ومن وحي ثورة فلسطين نظّم رئيف مسرحيته الشعرية «ثورة بيدبا» عام 1936 وكانت تباع خفية في المكتبات بعدما منعتها سلطات الانتداب البريطاني. ويذكر الفقراء والمحرومون في القدس رئيفاً الذي كان يعلّمهم بالمجان في مقر الشبيبة المسيحية. وعندما عقد عام 1938 مؤتمر الشبيبة العالمي الثاني في نيويورك، مثّل رئيف الشباب العربي حيث ندّد بالمخططات الصهيونية، ما حدا بالمندوب السامي البريطاني إلى إصدار قرار يمنعه من العودة إلى فلسطين إثر هذا المؤتمر. ورئيف وفق المؤلف كان يجاهر بقومية عربية مستنيرة ديموقراطية تضم تحت جناحها جميع أبنائها من دون تمييز بين الطوائف والملل. إضافة إلى شخصيته كقومي عربي، امتلأت نفس رئيف بالمعاني السامية للثورة الفرنسية التي خصّها بكتابه المتألق السبك «الفكر العربي الحديث، أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي» ( 1943 )، وكان أصدر عام 1937 كتابه «حقوق الإنسان» الذي اعتبر فيه الثورة الفرنسية أشدّ الثورات السياسية عصفاً وأبعدها مدى وأعمقها تأثيراً، إلا انه انتقد مساوئ الديموقراطية البورجوازية وإهمالها حق الإنسان الاقتصادي، وتغليبها الربح على سعادة المجتمع. أسّس رئيف عام 1940 عصبة مكافحة النازية والفاشستية مع عمر فاخوري ويوسف إبراهيم يزبك وقدري قلعجي، منبّهاً إلى الخطر الماحق الذي تمثله النازية والفاشية على قوميتنا وحريتنا وديموقراطيتنا. تلك المواقف المميزة لم تشفع برئيف إذ رماه رفاقه بضروب الافتراء وصار موضوعاً لرسوم كاريكاتورية مشنّعة مسّفة، وما مبعث ذلك كله إلا لأنه جاهر برأيه الصريح المستقل في ما يخص القضية القومية، رافضاً وقوف الاتحاد السوفياتي إلى جانب تقسيم فلسطين. المؤلف أضاء وجهاً من وجوهنا النهضوية المعاصرة بكل حضوره الأدبي والفكري والسياسي، مميطاً اللثام عن مرحلة من تاريخنا غنية بصراع الأفكار والمواقف. ولعل الكتاب يكون حافزاً لإعادة قراءة نتاج رئيف خوري وفكره واستلهام رؤيويته الرائدة.