بدأ محمود العبيدي مسيرته الفنية رساماً شبه تجريدي. كان لديه دائماً من الواقع الشيء الكثير. من طريق الإيحاء كانت خطوطه تقودنا إلى أشكال سيكون في إمكانها أن تعيدنا إلى تفاصيل ذاكرتنا البصرية. ولأنه كان قد استمد خياله التصويري من قدرة لافتة على لصق المرئيات، بعضها ببعضها الآخر، فقد صار علينا كمشاهدين أن نلهث وراءه في دروب متاهة، كانت دروبها إلى وقت قريب مرسومة بالأسود والأبيض. كما لو أن العبيدي كان يرسم لتسلية يده. للإنصات إلى شغبها الذي كان يحضر فجأة. فكان لذلك يذكرني بالأميركي من أصول هولندية وليام دي كوننغ. وحشياً يحرص على أن يظهر بتأنق مديني لافت. لا تكاد فكرته عن الشكل تستقر على الأرض حتى تحلّق ثانية لتخلص إلى تشظيها. كان للعبيدي قرينه، لغزه الخاص الذي يحثه على الوقوف وحيداً. ابن جيله في ثمانينات العراق وقد قرر أن لا يفلت من الحرب، باعتبارها قدراً تصويرياً. كان محمود هو الاستثناء من بين أفراد جيله مَن قرر أن يهب التجريد جناحَي محارب هارب من استحقاقات الواقع المضني. في تسعينات القرن الماضي فرّ محمود العبيدي من العراق برسومه. يومها لم يتوقف عن الهذيان الذي يذكّر بماضيه. كان معنياً في أن يخفف من كثافة ذلك الماضي وكان يودّ المضي باستسلام لملاقاة الآخر الذي يمثله، من غير أن يكون ذلك الآخر قد حمل مضطراً ذكرياته التالفة. كان الرسام يحلم بحنو قرينه، الذي كان تجسيداً لضياعه. وهو ضياع سيؤلف مفرداته من مزيج من الأمكنة والعواطف والعذابات التي سيكون على الرسام أن يكتب يومياته متأنقاً بين ثنياتها. سيكون عليه بعد حين أن يجد في عبوره بين المطارات هاجساً لإعادة تعريف علاقته بالفن. فكان عمله التجهيزي الأكثر نضجاً خلاصة لتلك التجربة المريرة. لقد اقترح ذلك العمل مجموعة من النصائح التي تمزج الغضب بالسخرية، إن أتبعها المسافر المتهم بالإرهاب بسبب سحنة وجهه ولون شعره فإنه لن يتعرض للمساءلة التي تنطوي على الكثير من الشك والريبة. كان ذلك العمل التجهيزي بداية لمسيرة فنية مختلفة، سيقضيها الفنان العراقي مسافراً بين الأفكار التي صارت وسائط الفنون المعاصرة تمتحن جمالياتها. وهي جماليات لا يمكن الحكم عليها وفق قوانين الذائقة القديمة. هناك مقدار من المنطق الرياضي صار في إمكانه أن ينتج واقعاً مقلوباً. وهو ما يكشف عنه وبجرأة معرض الفنان الحالي الذي احتضنته قاعة قطاريا في الدوحة. عمد العبيدي إلى استعمال السيف، مفردة وحيدة لارتجال صور معاصرة، هي ليست من مادة تلك المفردة. صور هي أقرب إلى عالم الاستهلاك اليومي منه إلى الطابع الرمزي المستلهم من تراث، كان يضع السيف في منزلة تكاد أن تكون مقدسة. تبدو لافتة رغبة الفنان في إلغاء خيال السيف نفسه حين يكتب بالسيوف كلمة (سلام) بالعربية والإنجليزية، وهي محاولة يمكن اعتبارها مقدمة ناجحة لما يمكن أن تؤدي إليه محاولة إنزال السيف من عليائه إلى عالم العيش المباشر، باعتباره مجرد عصا يمكن أن تنتهي بفرشاة للتنظيف أو معولاً أو مطرقة أو وسيلة لخلط المواد السائلة في المطبخ. أدخل العبيدي تركيبة عذبة من الاستعمالات إلى خيال السيف بما لا يتيح للمشاهد إمكانية العودة إلى ماضي تلك المفردة. هناك ضرب من التماهي مع الرغبة مع أنسنة ذلك السلاح المخيف كان في إمكانه أن يمحو كل أثر يذكّر بوحشية تاريخه. يحضر السيف بألفة ليكون جزءاً من العُدد المنزلية. يكشف الفنان عن إمكانية أن يكون السلاح القاتل خادماً مطيعاً في الحياة لا في الموت. الفكرة التي يحرّرها الفن من سياقاتها الواقعية الجاهزة لتكون عوناً لنا في تخيل عالم تقوى الأحلام على صياغة مضمونه المسالم من أشكال وحشيته. جرؤ الفنان على تحدي السيف العربي برمزيته التراثية، ليحيله إلى جزء من خيال منزلي، سيكون علينا أن نتحسس طريقنا إليه برفق وهدأة، من دون أدنى شعور بالحذر. «لقد انتهى عصر القوة» أهذا ما كان يفكر فيه الفنان وهو يختبر رمز القوة التقليدية في المساهمة في تصريف شؤوننا الحياتية اليومية؟ سيكون علينا أن نشيد بذكاء الرسام وهو يقتفي أثر الفرنسي مارسيل دوشان في التقاط المرئيات الجاهزة من أجل تكريس حضورها المباشر مادة للفن. غير أن الذكاء في حالة العبيدي يحضر ممزوجاً بنوع مستقل ومتحرر من البطولة. فلا شيء بعد السيف بالنسبة للكثيرين. لذلك فإنه لا ينتمي تماماً إلى عالم الأشياء الجاهزة، وفق مفهوم دوشان. للسيف خياله الخاص، وهو ما ألهم العبيدي فكرة ارتجال وظائف جديدة، لم يكن ذلك الخيال ليستوعبها في حكاياته المتوارثة. في فنه جعل محمود العبيدي من السيف خادماً لنزوات يومية هادئة، بدلاً من أن يكون سبباً للموت. وهذا ما يفعله الفن الحقيقي دائماً.