كثيراً ما ارتبطت كلمة الولاء قديماً بالسلطة والحرب وحديثاً بالوطن والقيم الاجتماعية، وأصبح الولاء للوطن قيمة مهمة يُطَالبُ الفرد بالتمسكِ بها تحقيقاً لوحدة الدولة واستقرارها. إلا أن هذه القيمة في عالمنا العربي تُواجَهُ بمشكلات عدة ومعقدة، منها ما يتعلق بطبيعة هذا الولاء وما إذا كان مرتبطاً بمصلحة خاصة ينتهي بانتهائها، ومنها ما له علاقة بأنواع الولاء وماهية القضايا التي يتجه إليها. ومع تطور المجتمعات في العالم العربي وانفتاحها على العالم اكتسب مفهوم الولاء للوطن أهمية كبرى لعلاقته بسيادة هذه الدول وتماسك مجتمعاتها. وأصبح من الضرورة البحث في هذا المفهوم وطبيعتيه القانونية والأخلاقية. فإنسان العالم العربي يعاني من الحيرة تجاه المفاهيم المحلية للولاء كالولاء للقبيلة أو الطائفة أو الحزب أو للقائد الملهم، وواجباته الأخلاقية تجاهها في مقابل ولائه للوطن. وأسهمت ثورة المعلومات وما أتاحته من انفتاح لا محدود على العالم الخارجي في زيادة تلك الحيرة لدى الإنسان العربي تجاه هذه الولاءات المحلية، بل وحتى الولاء للوطن. وتنوعت وسائل الاستقطاب الخارجي الموجهة للفرد العربي من قوى لها مصالحها، وأصبحت رقماً صعباً أمام جهود دول العالم العربي لترسيخ مفهوم الولاء للوطن. (يوجد العشرات من المحطات الفضائية التي تبث باللغة العربية وموجهة للعالم العربي من دول العالم كافة، خلاف آلاف المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي)، والواضح أن العربي أينما كان أصبح هدفاً رئيساً، فالجميع يحاول كسب وده لتشكيل عقله، فالعالم العربي الذي هو اليوم في قلب الأحداث الكبرى، جعل مخاطبة عقول أبنائه مسألة جوهرية لدى الكثير من الدول المتنافسة على المنطقة العربية وثرواتها. وأصبحت هذه الدول تتسابق وبأساليب ناعمة لكسب جانبه من خلال الحديث عن حقوق المواطن العربي وتبني همومه الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية منها، بواسطة وسائلها الإعلامية المختلفة والموجهة، فأضحت في نظر البعض هي المنابر المدافعة عن الإنسان العربي وحقوقه. ومن المؤكد أن هذا الاستقطاب الخارجي أتى لأن ثمة أرضا خِصبة لتمرير خطابه، لكسب العقل العربي وإضعاف ولائه للوطن. فالرهان يكون على الزمن لكسب ولاء الإنسان العربي، دونما مصادمة مباشرة أو واضحة مع منظومات القيم لديه، في ظل غياب واضح لوسائل إعلام عربي وبرامج وطنية مبدعة وفاعلة لمواجهة هذا الاستقطاب الناعم، فأصبحت وسائل الإعلام العربية إما متبنية بسذاجة متناهية (من حيث تدري أو لا تدري) لهذا الخطاب، أو في موقف المدافع المرتبك عن القصور إن وجد في جانب الحقوق لدى دولها. من هنا تصبح فكرة الولاء للوطن فكرة مشوشة وغير واضحة المعالم في عقل الإنسان العربي، فهو يسمع كلمة الولاء للوطن في وسائل الإعلام العربية يُتَغنى بها كثيراً، ولكن هذا الإعلام لم يستطع أن يوصل للإنسان العربي معناها الحقيقي، ليُدرِك أنها محور الاستقرار والواجب الرئيس بين كل الواجبات. فالولاء للوطن لا يأتي مصادفة أو من خلال حشد إعلامي موقت أو تمجيد للزعيم الأوحد، إنما هو مشروع حضاري يحتوي ما قبل الدولة والدولة نفسها وما بعدها، وهذه المراحل لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية بل هي نموٌ عضويٌ تراكميٌ مستمر، وأي خلل في هذا النمو تكون نتائجه دون المستوى المطلوب ومخيبة للآمال. فغرس الولاء للوطن ليست حرباً نخوضها بالمال والعتاد، كما أنه لا يكفي فقط أن نعقد المؤتمرات والندوات وندخل في حوارات حول هذا المفهوم وينتهي دورنا بانتهاء هذه الفعاليات، بل يجب أن نرصد حركته ومراقبته بعد ذلك ونشره من خلال برامج مؤسسية مدروسة ومستمرة للمحافظة عليه وتعزيزه، ليتمكن الإنسان العربي من أن يدرك ويستوعب أهمية هذا المعنى النبيل والأصيل، وأن يُنَقى مفهوم الوطن من شوائب الولاءات التي علقت به سواء كانت تلك الشوائب خارجية أم داخلية. وإذا كانت المحافظة على روح الولاء للوطن ضرورةً ملحة في كل دول العالم، فإن ضرورتها أكثر إلحاحاً في العالم العربي الذي توجد فيه خمائر جاهزة ضد المواطنة من طائفية أو قبلية أو إقليمية أو حزبية. ومن الركائز المهمة لترسيخ الولاء للوطن القيام بالواجب تجاهه، بألا يطغى جانب المطالبة بالحقوق (كما يريده البعض فقط أن يكون) على جانب القيام بالواجب تجاهه، بمعنى أن نركز في منطقنا الاجتماعي والسياسي والثقافي والإعلامي على القيام بالواجب تجاه الوطن أولاً، ثم تأتي المطالبة بالحقوق ثانياً، مع الإدراك التام بأن كل فرد بطبيعته تواقٌ إلى نيل الحق والنفور من القيام بالواجب. ومن أوجب واجبات الولاء للوطن ألا تكون المطالبة بالحقوق سبباً في تفكك الدولة وتشرذمها أو نشر الفوضى وزعزعة السلم الاجتماعي، بل أن يكون أساس الولاء للوطن القيام بالواجباتِ المحافظِة على كيان الدولة واستقرارها، فالوطن الذي ينمو وينهض هو الوطن الذي لدى مجتمعه رصيدُ من الواجباتِ فائض على الحقوق! * كاتب سعودي