عبدالقادر مولى قيادي في «الجماعة الإسلامية»، الفصيل الموازي ل «الإخوان المسلمين» في شبه القارة الهندية، من حيث التزامها مرجعية إسلامية من دون الخروج عن إطار الإقرار بشرعية النظام السياسي القائم على غير هذه المرجعية. وقبل إعدامه دارت في شأن وجوب تنفيذ الإعدام روايتان تبدوان للوهلة الأولى محليتين، لكنهما تعكسان في تعارضهما إشكاليةً تشمل مساحة واسعة من العالم، وتبدّلاً في الواقع الدولي الجديد مع تراجع التأثير المادي والمعنوي للقوة العظمى وما يؤدي إليه من تضاؤل في فعالية المنظومة العدلية الدولية. فمولى، وفق الرواية الرسمية والشعبية السائدة، مجرم حرب دين بأفعال قتل واغتصاب في إطار الأحداث الدامية التي شهدت انفصال الجناح الشرقي من باكستان عام 1971 وقيام دولة بنغلادش. وإعدامه مطلب عام سعياً إلى تحقيق بعض عدالة لم ينلها ضحايا المجازر التي رافقت معركة التحرير واستقلال البلاد. بل سبق لوسط العاصمة البنغالية داكا، أن شهد ما وُصف بأنه «ربيع» مشابه للمجريات في ميدان التحرير في القاهرة، عندما أصدرت «محكمة الجرائم الدولية» حكمها على المولى قبل فترة. فقد كان الحكم يومها السجن المؤبد، فانتفضت أوساط واسعة شبابية ومدينية رافضة اللين، ما دعا السلطات إلى مراجعة القرار لاستصدار حكم بالإعدام. والخلفية التي لا خلاف حولها هي أن هذه البلاد، يوم كانت الجناح الشرقي لباكستان، حكمتها المؤسسة العسكرية الباكستانية وكأنها أراضٍ محتلة، ممعنة في الإساءات إلى أهلها، على رغم أنهم كانوا يزيدون عدداً على سائر سكان باكستان. وهنا كانت المعضلة، من وجهة نظر باكستانية، والتي أدت إلى مأساة بنغلادش. فأكثر سكان الجناح الشرقي لباكستان كانوا من القومية البنغالية، والحركة القومية في صفوفهم تنامت بفعل التمييز الذي عانوا منه. فحين فاز أبرز الوجوه السياسية البنغالية، الشيخ مجيب الرحمن، في الانتخابات النيابية، وأصبح في حكم تولي منصب رئاسة الحكومة، تحرك الجيش الباكستاني لإبطال نتائج الانتخابات وفرض الحكم التعسفي في الجناح الشرقي. الحجة غير المعلنة لتبرير هذا التحرك، أن ثمة أقلية هندوسية بنغالية هي التي رجحت كفة الشيخ مجيب، ولا يجوز تسليم هذه الأقلية مصير باكستان التي أُنشئت كجمهورية للمسلمين. إلا أن القمع الذي لجأت إليه المؤسسة العسكرية جابهه القوميون البنغاليون بانتفاضة استهدفت السلطات الباكستانية بخاصة، وغير البنغاليين المقيمين في الجناح الشرقي، وهم من المسلمين الوافدين في إطار التبادل السكاني إثر تقسيم الهند على أساس ديني. والانتفاضة جوبهت بمزيد من القمع الممنهج، بل بتصفية جسدية استهدفت شرائح واسعة من البنغاليين، لا سيما أصحاب الكفاءات، كما أباد الجيش الباكستاني الآلاف من أفراده من ذوي القومية البنغالية احترازياً، من دون اعتبار لولاءاتهم. التجاوزات التي ارتكبها الجيش كانت أوسع من أن يجري التستر عليها. إلا أن عدداً غير ضئيل من البنغاليين أنفسهم، من ذوي الولاء الوطني لباكستان، أو من الذين يغلّبون الانتماء الديني واعتبروا الانتفاضة القومية مؤامرة هندية تهدف إلى تفتيت البلاد، بقي في الصفّ الباكستاني، لا سيما أن التجاوزات من الجانب الباكستاني قابلتها تجاوزات موازية بحق غير البنغاليين كما البنغاليين المؤيدين للحكم الباكستاني من جانب القوميين. والهند تدخلت بالفعل، وإن لاعتبارات مختلفة عن التي راودت ظنون خصومها، وأنهت المأساة في جوارها، فقامت دولة بنغلادش، واستسلمت القوات الباكستانية وجرى ترحيلها. إلا أن الجروح التي لم تُداوَ في بنغلادش أدّت إلى تصعيد مكبوت فاقم الانقسام الداخلي وساهم في اتساع الشرخ في الخطاب السياسي. والمحكمة التي تقيمها الحكومة الحالية، وهي ليست محكمة دولية، إنما تُصنّف الجرائم التي تنظر بها كجرائم دولية، قد يكون هدفها مداواة هذه الجروح وتحقيق مقدار من العدالة الرمزية. إلا أن الواقع مغاير لهذه الطموحات. فالإدانة التي طاولت عبدالقادر مولى مثلاً لم تأتِ على أساس أدلة معتبرة في الأعراف الدولية للمحاكمات، بل يعتبر فيها أن الرواية الأحادية المنقولة عن شاهد غائب كافية لإثبات الجرم، كأن يقول أحدهم أخبرني آخر أنه رأى عبدالقادر مولى يقتل، فتثبت على عبدالقادر مولى تهمة القتل، ويعتبر فيها أن فعل الجماعة يستوجب إدانة الأفراد بالجرم، كأن يقول أحدهم شاهدت عبدالقادر مولى مع جماعة ارتكب بعض أفرادها جريمة الاغتصاب، فتثبت على عبدالقادر مولى تهمة الاغتصاب، وترضى المحكمة بالتضارب في أقوال الشهود لمصلحة الادعاء، كأن تتبدل الرواية، أو كأن لا تكون هنالك رواية من الشاهد أصلاً في استنطاقات سابقة، ثم تصدر رواية تدين المتهم، فتعتبر ملزمة للحكم بالإدانة. وقرارات المحكمة كان مفترضاً وفق شرعتها أن تكون نهائية غير قابلة للطعن، إلا أن المحكمة أعادت استصدار الحكم بالإعدام بعد الاعتراض الرسمي والشعبي على الحكم بالمؤبد. الحجة التي يعتمدها مؤيدو المحكمة لتبرير هذه الإجراءات هي أن فداحة الجريمة تستوجبها. غير أن اختيار المتهمين من خصوم الحكومة الحالية يضفي على شبهات التوظيف السياسي للمأساة التاريخية لبنغلادش مقداراً من الصدقية. ما جرى في بنغلادش قبيل الاستقلال كان حرباً أهلية بمقدار ما كان ثورة تحرير. وغير البنغاليين من مواطني باكستانالشرقية السالفة، الذين يُعرفون بالبيهاريين، لا يزالون إلى اليوم في ظروف بائسة، حتى بالمقارنة مع الأوضاع السيئة الغالبة في هذه البلاد الفقيرة، إذ القتل أو الاضطهاد الذي تعرضوا له لا يجدون من يطالب بالإقرار به، لا من الجانب البنغالي الذي يدرجهم في خانة الخونة، من دون أن يتضح في حق مَنْ كانت «الخيانة»، ولا من الجانب الباكستاني المتنصل منهم ومن مصيرهم. وإذا كانت حكومة بنغلادش اليوم تستغل العدالة التي تأخرت لتصفية الخصوم، أو إذا كانت المسألة مجرد سوء أداء، فإن غياب التأثير المعنوي لمنظومة دولية تنكمش بفعل التراجع المتعمد للقوة العظمى هو ما يسمح بالإمعان في الفعل. الشخصيات الدولية اتصلت بالحكومة البنغالية سعياً للمراجعة والتهدئة. وزير الخارجية الأميركي جون كيري تحدث الى رئيسة الوزراء... إلا أن تأثير هؤلاء هو اليوم أقل قيمة. واحتمالات التفاقم في بنغلادش وغيرها في ارتفاع.