يعود الروائي جان دوست أكثر من ثلاثة قرون إلى الوراء، ليستعيد في روايته «ميرنامه - الشاعر والأمير» صفحات مضيئة من سيرة حياة أحد أبرز الشعراء الكرد الكلاسيكيين، ألا وهو أحمدي خاني (1651 - 1707). الرواية الصادرة عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (مشروع كلمة)، كتبت بلغة الكاتب الأم الكردية، وقام المؤلف ذاته بترجمتها إلى اللغة العربية، بينما تولى مراجعتها وتحريرها كاميران حوج. تحيي الرواية، إذاً، ذكرى شاعر وفقيه معروف، وهو خاني الذي لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث. فالأكراد الذين لطالما انشغلوا بالهموم السياسية، وناضلوا من أجل حقوقهم المستلبة، لم يتسن لهم الاحتفاء برموزهم الفكرية والثقافية والأدبية والفنية. وعلى رغم أن التراث الكردي يحفل بمثل تلك الرموز، غير أن تاريخهم الدامي لا يذكر سوى قصص الثورات الكثيرة الخائبة، وهو ما دفع أحد الباحثين الغربيين إلى وصف كردستان ب «بلاد الألف ثورة، والألف حسرة». الروائي الكردي السوري جان دوست، المقيم في ألمانيا، يقتفي أثر علم من أعلام الكرد. يعود إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث عاش بطل روايته ليختار وقائع وأحداث تساهم في بناء صرح روائي متماسك ومحبب. ولد أحمد خاني في مدينة بايزيد الواقعة في كردستان تركيا، وهو صاحب الملحمة الشعرية المعروفة «مم وزين»، التي ترجمت إلى مختلف اللغات، بينها العربية، وهي تتكون من 2661 بيتاً وتعادل في قيمتها ملاحم معروفة في ثقافات الشعوب مثل «خسرو وشيرين». تلقى خاني علومه الابتدائية في الكتاتيب والجوامع على أيدي شيوخ زمانه، ثم في المدارس التي كانت متوافرة، آنذاك، في المدن الكبيرة، مثل تبريز وبدليس. ظهرت على الفتى علامات النبوغ باكراً، إذ نظم الشعر وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة. زار خاني حواضر كثيرة مثل إسطنبول ودمشق ووصل مصر وكان هاجسه الدائم هو الاستزادة في العلم. شغل منصباً في ديوان الأمير في بايزيد في مرحلة مبكرة من شبابه، إلى جانب اشتغاله بالإمامة والتدريس في مسجد بايزيد. أتقن لغات كالعربية والفارسية والتركية، إضافة إلى الكردية، وله أشعار تدمج في القصيدة ذاتها بين هذه اللغات الأربع. على رغم انغماسه في الفلسفة والأدب والتصوف، إلا انه خصص قسماً من وقته للأطفال، فوضع لهم قاموساً لغوياً مبسطاً بعنوان «الربيع الجديد»، لتذليل مصاعب التعليم لدى الاطفال الكرد في تلك الحقب المضطربة. كانت كردستان، التي قسمت إثر معركة جالديران (1514)، ملعباً للصراع بين الصفويين والعثمانيين الذين سعوا إلى اقتسام الإمارات الكردية. وكان الأكراد، آنذاك، يخوضون معارك الآخرين من دون أن يكون لهم كيانهم الخاص. ولعل خاني، الذي ظهرت لديه النزعة القومية، باكراً، تنبه إلى هذا الغبن، وحضّ قومه على عدم القتال في جبهات الفرس والترك. لكن رؤيته هذه كانت تعتبر تمرداً بمعايير تلك المرحلة حيث كان الانتماء الديني يطغى على الانتماء القومي. هذا الجدال أخذ حيزاً واسعاً من اهتمام خاني، مثلما يأخذ حيزاً واسعاً من اهتمام هذه الرواية التي ترسم شخصية الشاعر الكردي لا من منظار الوقائع التاريخية الموثقة فحسب، بل كذلك عبر الخيال الروائي الخصب. بين الواقعة التاريخية والسرد الروائي المتخيل يمضي بنا جان دوست في رحلة معرفية؛ أدبية شيقة تطلعنا على جوانب من شخصية خاني، وعلى أفكاره وتأملاته ووجهات نظره حول شؤون الحياة المختلفة. وفضلاً عن اعتناء الرواية بالجوانب الشخصية والانسانية لخاني، إلا أن المتن الرئيس لهذا العمل يكاد يكون مخصصاً لإلقاء الضوء على تلك العلاقة الاشكالية التي ربطت دائماً بين الثقافة والسلطة، أو بين المثقف والحاكم. منذ العهود الغابرة وحتى يومنا هذا، فإن العلاقة بين رجل الثقافة ورجل السلطة هي علاقة اشتباك دائم، وأية هدنة بين الطرفين تعني أن المثقف قد تنازل عن وظيفته ودوره وانحاز الى النفوذ والجاه، بدلاً من الانحياز الى الرأي الحر؛ الجريء. سنجد، هنا، أن خاني كان يؤمن بسلطة الثقاقة لا ثقافة السلطة، وهو لم يكن ليهادن الأمراء الذين يرسلون الفقراء إلى الحروب، بينما يستمتعون بمباهج الحياة، ولم يكن لينافق رجال الدين، كذلك، الذين أغرقوا البسطاء بالخرافات والدجل. على رغم طباعه الطيبة؛ الهادئة والوقورة، إلا أن خاني، كما يظهر في هذه الرواية، كان ناقداً لاذعاً للسلطة السياسية والدينية. لم يرض بالخضوع لأية سلطة سوى سلطة المعرفة، وهو عمل دائماً على التمسك باستقلالية الرأي، والجهر بالمسكوت عنه من دون أية خشية من العواقب، وهذا ما وفر له الكثير من الخصوم، مثلما أوجد له الكثير من المريدين والمعجبين ممن رأوا في خاني مثلهم الأعلى الذي يقول ما يعجزون هم عن البوح به. تبدأ الرواية بتشييع جثمان الشاعر في يوم حزين ماطر. لكنه ليس أي مطر. إنه أشبه بالحبر المعطر الذي كان يتقن استخدامه في نقل أفكاره ومواقفه، وفي تدوين لوعته على حبيبته التي زوّجها والدها من دباغ غني، فعاشت حياتها بين عطن الجلود بينما كانت تحلم أن تعيش حياتها مع حبيبها الشاعر الذي يكتب بحبر تفوح منه رائحة العنبر. الشاعر ظل وفياً لحبه، وامتنع عن الاقتران بفتاة أخرى، ويوم رحيله لم تذرف حبيبته الدموع مثل الآخرين. لم تبك. لكنها كانت الأكثر حزناً على رحيل الشاعر، بيد أن أحداً لم يسمع نحيب قلبها. تتعدد الأصوات في هذه الرواية، فعلى رغم أن المحور الأساس هو احمدي خاني، إلا ان الكاتب يسند مهمة التعريف بهذه الشخصية الأدبية إلى شخصيات منسية عاصرت الشاعر وعاشت معه. كل شخصية تتحدث عن علاقتها بالشاعر، وتستحضر ذكرياتها معه، فهناك سليم صانع الحدوات، ورجب الخياط، وزهدي تاجر الجلود، ودوستو المغني، وصلاح الدين الورّاق، وشنكي العاشقة المحرومة، وهناك رجل الدين المتنور وهناك الوصولي والانتهازي والملا والحاجب والطبيب... الرواية تخصص لكل شخصية فصلاً للبوح والمكاشفة تتحدث فيه عن مزايا أحمدي خاني، عن طباعه وسلوكه ومزاجه. تتكامل هذه الاصوات لترسم، في النهاية، لوحة وجدانية عن الشاعر. ولا يقتصر هؤلاء الرواة على الحديث عن خاني، بل، كذلك، يتحدث كل واحد منهم عن مهنته وعن خيباته وهمومه وعن مغامراته وأحوال عصره، وبذلك نتعرف إلى الحياة الاجتماعية والثقافية للأكراد في تلك الحقبة. نصغي إلى ملاحم البطولة والشجاعة والعشق والتضحية، وإلى حكايات الغربة والغدر والخيانات والخيبات. ندخل بلاط الأمراء والسلاطين، وبيوت الفقراء والمساكين. نجوب جغرافية كردستان بمدنها وبلداتها وجبالها ووهادها. نستشف عبق الماضي في رواية لا تغوص في متاهة الوثائق، بقدر ما تمتح من نبض الحياة وزواياها المهملة التي لم تؤرخ يوماً في كتاب. جان دوست، صاحب رواية «مدينة الضباب» ورواية «ثلاث خطوات إلى حبل المشنقة»... وغيرهما، يطوع اللغة بما يتناسب مع سياقها التاريخي. لكن ذلك لا يعني إمعان الكاتب في اختيار مفردات وتراكيب صعبة، بل يجتهد في وضع صياغة لغوية تجمع يبن بلاغة التعبير وبين المنحى الشاعري المرهف. سنسمع كثيراً مفردات من قبيل المرملة والدواة والقرطاس واليراع... هذه المفردات وسواها، وإن بدت نادرة في النصوص الحديثة، إلا أنها، في هذه الرواية، تأتي متناغمة مع فضاءات هذا العمل، وموظفة في شكل موفق. اللغة والحوارات والاقتباسات والصور الأدبية والامثلة المستمدة من أجواء الثقافة المحلية... كل هذه العناصر تتكامل على صفحات هذه الرواية التي تسرد تفاصيل مرحلة تاريخية حافلة بالأحداث والوقائع، وتؤرخ لمحنة شاعر لم يشأ أن يساوم على مواقفه.