تمتح المجموعة القصصية «لوزة» للكاتب المصري عبدالستار حتيتة (الهيئة العامة لقصور الثقافة) من مد لغوي سامق، فتحيل الكتابة نفسها إلى اشتباك رهيف مع آلامنا وإحباطاتنا، وإخفاقاتنا اليومية. وعبر أربعة عشر نصاً تتشكل المجموعة حاوية تنويعات قصصية مختلفة، وتصورات متعددة حول الحياة والعالم والأشياء، فما بين قصص تنحو صوب التقاط معنى الاغتراب، الناشئ عن الغربة المادية، مثل قصص: «جبار القائد»، و «عطيب البخت»، أو قصص تنهض على أبنية لغوية محضة تحاكي بيئاتها المحلية «مطروح» شفاهياً مثل: «غنى سكت»، و «عودة»، وقصص أخرى تتجه صوب الفانتازيا الحاملة مرارات واقع موغل في وحشته وقسوته في آن، مثل «طحالب، ورغاوي حمراء»، وقصص تسعى صوب أنسنة الأمكنة والحكايا مثل «حكاية سالم، وتل إمحيميد»، وأخرى ذات إهاب رومنطيقي مثل «نجمة القمر». نحن إذاً أمام مجموعة بالغة الثراء، والتنوع، كُتبت على فترات متقطعة، وهذا لا يمكن إدراكه عبر التواريخ المثبتة في نهاية القصص فحسب، ولكن عبر التنويعات الماثلة فيها، والتحولات الكامنة في رؤية العالم داخل المجموعة القصصية. في القصة الأولى «حكاية سالم» ثمة شبكة من العلاقات الاجتماعية، تحيل إلى مجتمع قبلي وعشائري بامتياز، للوقت داخله سطوته وللأعراف البالية سلطتها، مجتمع لم يعرف من الحداثة سوى قشرتها «السيارة اللاند كروزر موديل 1999»، والتي تلهب خيال فتيات القبيلة، فيحلمن بركوبها إلى جوار «سالم»، وهن يهتززن اهتزازاً محبباً إليهن داخلها: «سالم تحول خلال خمس سنوات من صبي يتيم يعيش في كنف هذا العم القاسي إلى شاب يمتلك منزلاً منيفاً على حافة الوادي وسيارة تويوتا لاند كروزر شهباء موديل 1999 ذات قُمرة مكيفة وصندوق عريض وإطارات مدببة الحواف، لها بوق إذا أطلقه طار النوم من أعين عذارى البيوت الناتئة تحت الهضبة وبنات النجوع المجاورة» (ص 10). وفي مقابل سالم المغامر الشقي الخارج عن عباءة قبيلته، والمصطدم مع ميراثها، نجد عمّه، هو رمز السلطة، أمانيه تنحصر في الحصول على لقب نائب في البرلمان، وبينهما «علياء» ابنة العم التي ظلت كنجمة لا يُمكن أن يصل إليها سالم. ومن المفارقات الدلالية لاسم الشخصية المركزية في القصة «سالم» أنه لم يسلم من القتل، وانتهى به الأمر صريعاً في بئر سحرية، تبدو ترميزاً على عالم غرائبي، وفي رفقة صديقه السوداني عازف الناي «عثمان»، وعبر مناجاتهما تتخلق الحكايا حولهما وحول البئر السحرية. شخوص هذا المكان لا يملكون سوى الحكاية، وعلياء لا تجد سوى الانتظار، فتبقى رهن الإشارة المتفق عليها مع حبيبها المقتول سالم، وهي أن يدور بالسيارة دورتين مثيراً للتراب في اتجاه عقارب الساعة. وهو الانتظار الذي يطول، ولا يجيء أبداً. ولعل تيمة الانتظار تعد بمثابة التيمة المركزية في مجموعة «لوزة»، ويمكننا تلمسها أيضاً في قصة «رتابة»، فحياة مريم المعلمة في المدينة الصحراوية تتحول إلى حياة شبحية بنت الضجر الدائم والملل المستمر. تظلّ تنتظر ابنها المجند والذي لا يأتي أبداً، لتُشير الشواهد كلّها إلى موته: «آه يا ولدي العزيز. لو تعود بين يدي الآن. ماتت كل حياة في المدينة. اختفى لغط المسافرين المنبعث من المقهى. وحلت طبقة إضافية من الصمت الثقيل الذي سيستمر إلى الصباح. قرب منتصف الليل دبت قدم على السلّم في الخارج. دق قلبها. خفت كحمامة. فتحت الباب. رنت إليها القطة وهي تعبث في سلة المهملات. جلست في الشرفة مجدداً. راحت تحتسي ما تبقى من الشاي البارد في ظلام الشرفة» (ص 36). ويكتسي الانتظار طابعاً رومنطيقياً في قصة «نجمة القمر»، لكنها رومنطيقية خاصة، وليست بنتاً للنهنهات العاطفية، وإنما بنت ألم الفراق، والوحشة والفقد، فالحبيب المجبر على ترك حبيبته لا يقوى على العودة من جديد، سوى في صورة طيف زائر، يملك حق العبور فحسب. في «لوزة» القصة التي تحمل المجموعة اسمها، ثمة ذات على حافة الفقر والنسيان. إنها فتاة مهشمة تبكي عالماً يلفظها، وفي ظل قسوة العالم ثمة أمل للتماس من جديد معه عبر ابن المدينة «فضل»، في مقابل ابنة البداوة «لوزة»، لكنه يظل أملاً مهدوراً. وحتى كلمات المدرس الحانية لا تعدو أكثر من كونها مجرد كلمات. أما عن لوزة نفسها فأطبقت ذراعيها حول ركبتيها وجلست باكية في نهاية القصة المنفتحة على عدد هائل من الأسئلة والتصورات. في»تل إمحيميد» ثمة أنسنة للمكان، عبر صنع علاقة حميمة معه إلى الحد الذي يتوحد فيه إنسان المكان «إمحيميد» مع الحيز الجغرافي ذاته «التل»، فيأبى أن ينظر إليه نظرة وداع حين يغادره، لأنه في الحقيقة كامن داخله. وفي قصة «اليوم قبل الأخير»، نجد السجين منتظراً حكم الإعدام، لكنه لا يلبث أن ينتقل إلى سجن جديد قبل تنفيذ الحكم بيوم واحد فقط. إنها مزاوجة رهيفة بين الحلم والواقع، بين وجه «نادية» ووجه السجان. ويبدو السرد سلساً، في نص بديع يحوي شجناً خاصاً، وحساً شفيفاً بالعالم. وربما تعدّ قصة «جبار القائد» علامة على كشف التناقضات السياسية والاجتماعية الفادحة في واقع «ليبيا القذافي»، بخاصة حين يشير إلى المسكوت عنه في الحرب الليبية التشادية، والتي خلّفت ضحايا كثيرين، عبر حكاية السائق المصري «الصابر»، والذي يعمل جندياً في صفوف القوات الليبية. فيدخل في صراع مع قائده «جبار» الفاشل والذي لا يعرف من فنون الحرب سوى الصراخ في جنوده. وربما يعدّ المكان الليبي خصباً فنياً وجمالياً، وقد دفع كُتاباً مصريين إلى التماس معه مثلما صنع فتحي إمبابي، وإدريس علي، وخالد إسماعيل. تطل الفانتازيا برأسها في قصتي «طحالب»، و «رغاوي حمراء» مشغولة بمعاناة الإنسان الفرد في مواجهة عالم بالغ القسوة، وبالغ العتامة... لا يعيد عبدالستار حتيتة الاعتبار إلى البيئات المحلية المهمشة في مجموعته «لوزة» فحسب، لكنه - وهذا مناط الجدارة في النص - لا يتعامل معها وفق منطق «سياحي»، فيقدمها للمترجم الغربي أكثر مما يقدمها لناسه، كما يفعل كتاب آخرون، ومن ثم يعد نصّه منفتحاً على أفق سياسي-اجتماعي وسيع، ابن راهنه، وتساؤلاته، وقلقه في آن.