ساقت الأقدار مدينة حمص السورية إلى واجهة المشهد العالمي؛ لمأساتها التي فرضها نزاع بين فئات مختلفة من السوريين يبحثون في مستقبل جديد لبلادهم، وبين نظام يبدو متشبثاً بالسلطة حتى الرمق الأخير، وهو ما عكسه المخرج السوري طلال ديركي من خلال فيلمه الوثائقي «العودة إلى حمص» في عرضه الأول في مهرجان أيدفا الدولي للأفلام الوثائقية في العاصمة الهولندية أمستردام. بطل الفيلم الشاب عبدالباسط ساروت حارس مرمى كرة القدم في أحد الأندية، كان في العام الأول من الثورة رمزاً لسلميتها، إلا أن وطأة الحرب أفقدته الأمل في النضال السلمي، ليشهر السلاح في وجه نظام يراه ديكتاتورياً فاسداً، التقاه ديركي صدفة خلال توثيقه مع ناشطين آخرين للثورة في سورية في الوقت الذي كان الإعلام ممنوعاً من ممارسة عمله، «التحضير للفيلم بدأ تقريباً مع بداية الثورة، حيث إن قصته بمثابة تجسيد للواقع السوري الحالي من خلال شخصيات شابة على الأرض استطاعت خلق حراك غير مسبوق. كان من المفترض العمل على قضية كردية لشخصيتين كرديتين لكن تم اعتقالهما قبل انطلاق التصوير. فكان أن التقيت ساروت فجذبني روح التحدي والإصرار بداخله تجاه هدفه، فشعرت أنه شخصية واعدة». ولم يخف ديركي أن حماسته للثورة هي ما دفعته إلى تحمل العديد من العراقيل التي واجهته وفريق العمل خلال فترة التصوير في حمص، معتبراً الفيلم إنسانياً في المقام الأول لا يحمل أغراضاً دعائية للثورة، «الجانب الإنساني هو ما يعطي للسينما مداها وعمرها لأن العناصر الإنسانية هي ما تجمع الشعوب، سواء حباً أو تحدياً أو قوة». اليأس رفيق طريق وسرد ديركي ل «الحياة»، معاناة صانعي الفيلم في مدينة ملتهبة كمحص، قائلاً: «بلغت ساعات التصوير حوالى 200 ساعة، وفي مراحل عدة انتابنا اليأس لحجم الخطر الواقع على الجميع بخاصة المصور قحطان حسون الذي تم محاصرته أكثر من مرة بمعداته أو كان عرضة لقذيفة من هنا أو هناك، وكذلك الحال بالنسبة لي حتى تم إنجاز الفيلم في نيسان (أبريل) 2013. منذ تقديم مشروع الفيلم للمنتج السوري عروة نيربية وحتى نهايته كان محفوفاً بأخطار مختلفة فحواها: من أين نبدأ؟ وكيف نتخطى العقبات التي ستواجهنا؟. رغم ذلك، تمكنا من جمع مادة سينمائية كبيرة مثلت تحدياً جديداً على مستوى المونتاج بخاصة أن بعضاً من تلك المواد كان غير احترافي وبعضها الآخر لم يكن كافياً لتصوير حدث ما، إلا أن المونتيرة آنا فابي الحاصلة على جوائز عالمية في المونتاج تداركت الأمر». وأرجع ديركي سيطرة الشكل البصري على أحداث الفيلم إلى كونه الأنسب لنقل الواقع، حيث يوضح قائلاً: «الفيلم بدايته وثائقية بحته قبل أن يأخذ بعد ذلك شكله الروائي. كانت هناك مقابلة ببداية الفيلم، ومعها استغنيت عن باقي المقابلات حتى تأخذ الأحداث الكبيرة التي تحمل حدثاً درامياً مساحة جيدة. أردت بلغة السينما رسم الحرب وما وراءها، وذلك من خلال التركيز على الصورة بما تحمله من وقائع حتى انفعالات وحالة البطل التي تظهر على وجهه من حين لآخر والتي تتشابه مع حال كثير من السوريين. على سبيل المثال، الشارع الذي اعتاد باسط المشي فيه، والاحتكاك بالحشود الذي ترفعه للمنصة كمنشد للثورة، هو نفسه الشارع الذي يسير به بعد فترة وكل شيء به مهدم تسكنه الأشباح، والدماء تلطخ ثيابه وهو يراقب القذائف تتساقط على حمص. من خلال الصورة حاولت نقل سورية قبل وسورية بعد». تحت ظل السلاح صناع الفيلم اختاروا له في البداية اسم «نشيد الأناشيد» لكنه عاد وتغير إلى «العودة إلى حمص»، وذلك «مع انتقال الثورة لشكلها المسلح ودخول المعارك في عنف شنيع». أما بطل الفيلم «فاختار مغادرة حمص لتحريرها من خارجها». «العودة إلى حمص» ليست فقط رغبة عبدالباسط ساروت بل غاية تجول بخاطر أهلها الذين دفعتهم وطأة الحرب إلى الفرار بعيداً من أرجائها». لكن لماذا اعتمد ديركي على الراوي خلال أحداث الفيلم، يجيب: «اعتبر قصة الفيلم ملحمة تاريخية قادها مجموعة من الشباب متحمسين لبلدهم، والراوي هو شاهد أو مؤرخ يروي قصة الفيلم مسجلاً انطباعات تخلق نوعاً من التعاطف هي جسر لإدخال المشاهد في الحدث ليكون جزءاً منه لا فقط مشاهداً». اعتمد ديركي في فيلمه على بطلين فقط هما ساروت وأسامة، الأول يمثل قسماً من الثوار كفر بالسلمية وفضل حمل السلاح لخلاص بلده من الديكتاتورية، والثاني يعبر عن قسم عريض من أناس فضلوا الدفاع عن قضيتهم بعيداً من حمل السلاح لكنهم في ظل قسوة الحرب تغيبوا عن المشهد لأسباب مختلفة، «ساروت عاد للحصار مجدداً مع مجموعته، حيث لا يزالون يدافعون عن المدنيين، أما أسامة قد غاب في ظروف غامضة». وللمناسبة أكد ديركي أن الفيلم الوثائقي السوري يلعب دوراً مهماً حالياً: «هو ينقل صورة واقعية عما يحدث في سورية بعيداً مما تبثه نشرات الأخبار، عبر ما يسجله من مواقف تظهر أن السوريين ليس لهم أجندة. هناك أناس تقدم تضحيات من أجل وطن بعيداً من أي حسابات هوية أو طائفية. تخيلي الفارق بين هذا الفيلم وفيلم روائي مثلاً عن باسط ساروت بعد سنوات، ربما لا يحمل بين طياته ذلك الخوف، ولحظات الترقب، والتحدي في نقل القضية». الفيلم عقب عرضه تلقى حوالى 40 دعوة لمهرجانات حول العالم، لذا من المفترض تأجيل العروض التلفزيونية طمعاً في العروض السينمائية في الصالات. «العودة إلى حمص» هو الفيلم الطويل الأول لديركي بعد تجربتين في السينما الروائية القصيرة غير راضٍ عنهما، مؤكداً أن إخراج فيلم في بيئة إنتاجية صحية ييبدع منتجاً سينمائياً جديراً بالمشاهدة. وهو ما اتفق معه منتج الفيلم عروة نيربية الذي اعتقل في آب (أغسطس) 2012 لمساعدته نازحين في مدينة حمص، قائلاً: «معظم الموزعين غير مهتمين بالشكل الروائي الجيد، انهم مهتمون بالتجاري فقط، أما التلفزيونات فمهتمة بالفيلم الإخباري العابر الذي يعتمد فقط على الموضوع ويلقّن الجمهور العربي درساً تعليمياً تلقينياً، وهذا لا يرتبط بالإبداع بصلة، كما لا يوجد تعاون عربي في المجال الوثائقي، فأي محطة تلفزيونية عربية غير مستعدة للتنازل عن الملكية الكاملة للفيلم إذا ساهمت في إنتاجه ولا ترحب بإنتاج مشترك. من يختار الفيلم التسجيلي كمهنة لا ينتظر عائداً مادياً ضخماً. الفيلم التسجيلي العربي معتمد على رغبات فردية لأشخاص قلة طموحهم غير مكتفٍ بطلبات التلفزة العربية، هذه الاستثناءات دعمها شيء واحد ليس التلفزيون ولا الموزعون ولا السوق بل ظهور صناديق منح سينمائية تساعد من دون تطلّب سوقي، في مقدمها الصندوق العربي للثقافة والفنون، ومؤسسة الشاشة».