يلاحظ المتابع للدورة الخامسة من «فن أبو ظبي»، مدى جدية القائمين عليه في تكريسه منصة تنافسية، تحتضن الفنون المعاصرة في الشرق الأوسط خصوصاً، والعالم، ومنحه محبي الفن فرصة التعرف إلى الإبداعات الغربية والآسيوية والأفريقية، والتيارات الفنية الجديدة. واللافت أن الدورة التي اختتمت أمس واستضافتها جزيرة السعديات في العاصمة الإماراتية، بدت الأنضج والأكثر انفتاحاً على مناطق جديدة لأسباب عدّة، أهمها إعطاء فنانين محليين الفرصة وتشجيعهم واحتضانهم، ومواكبة الأحداث العربية والعالمية عبر استضافة أعمال قادرة على فتح نقاش حول الحرية وحقوق المرأة والتفلّت من العادات والتقاليد والهوية والانتماء والحرب ومسبباتها. الحدث الذي تنظمه هيئة أبو ظبي للثقافة والفنون، بات ملتقى سنوياً للإبداع وتبادل الأفكار، ويحمل في كل دورة جديدة أقساماً وأفكاراً تضاف إلى برنامجه العام، ومواعيده الثابتة. وثبّت المعرض المختص في الفنون التشكيلية والبصرية، خطاه على الخريطة الفنية، عبر برنامج لا تتشابه فيه المشاريع أو الأفكار. فالمتنقل في أرجائه، يتنقل من حضارة إلى أخرى، ومن تيار فني إلى آخر مختلف وغريب، لكنه مبهر. ومن أبرز ما قدّمته دورة هذه السنة، برنامج للفنون الأدائية في عنوان «دروب الطُوايا»، وإطلاق قسم جديد في عنوان «الفنان... والإبداع»، يجسِّد مفهوماً جديداً لاكتشاف وإعادة اكتشاف الفنانين خلال الحدث، عبر معرض تشارك فيه أعمال كُلّف إنجازها الكثير من الفنانين. وتعكس الأعمال المشاركة دينامية الحركات الفنية الجديدة والتحوُّل في المفاهيم الإبداعية. ويتضمَّن هذا القسم «صالوناً» يتيح للزوار التواصل مع الصالات الفنية التي تمثل الفنانين المشاركين، بالتناوب، في فكرة مستلهمة من الصالونات الأدبية التي سادت في ستينات القرن العشرين وسبعيناته في أبرز العواصم العربية، ومثلت حينها ملتقى مشاهير الشعراء والأدباء والمثقفين. وتقول المديرة التنفيذية لقطاع الثقافة في هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة ريتا عون عبدو ل «الحياة»: «إن هذه الدورة تجسّد محطة فارقة في مسيرة الحدث التي انطلق قبل خمس سنوات، تتميز بنضج ملامح المشهد الفني في أبو ظبي، وتنوع مجالاته الإبداعية، والتطلع نحو التجديد». وتضيف: «سيمنح قسم «الفنان... والإبداع» الجديد مقتني الأعمال الفنية والزوار فرصة اكتشاف أعمال فنية أبدعها فنانون صاعدون، كما سيتم التركيز من خلاله على عملية اكتشاف الفنانين الموهوبين عبر معرض فني يضم مجموعة من الأعمال التي اختارها منسقون فنيون وليس من خلال صالات العرض كما جرت العادة». «الزنزانة 15» ويبدو واضحاً أن أهمية «فن أبو ظبي» لا تنحصرُ في الأعمال الفنية المتميزة ذات الجودة المتحفيَّة التي تعرضها 50 صالة عرض من 21 دولة و30 مدينة، إذ يركز الحدث على تقديم المنظور العابر للحدود لفن الثقافة الشعبية والصورة الوسطية، ويتساءل عن مفهوم قيمته، أسبابه، سبل تحقيقه، والتحولات التي مرّت بها الحركات الفنية. ولاحظ زوار المعرض ذلك في قسم «آفاق» الذي احتضن أعمالاً ضخمة (12 عملاً)، إضافة إلى قسم «البساطة سرُّ الجمال» الذي يسلط الضوء على الأعمال الفنية المصغرة. ومن الأعمال الجدلية والتي تفتح نقاشاً في المعرض، تجهيز فني للفرنسية الراحلة لويز بورجوا مؤسسة فن الاعتراف، عنوانه «الزنزانة 15» وقدمه غاليري «تشيم آند ريد». العمل مهدى إلى جوزيف مالورد وليام تورنر (1775 - 1851) رداً على لوحته «الشمس تشرق من الضباب»، وهو كناية عن زنزانة وضعت فيها بورجوا طبقات من الألومينيوم المطلي مع مرايا زجاجية وإنارة كهربائية. وكان تورنر شخصية جدلية في عصره، لما حمله من أفكار حداثية ورؤية مختلفة لكيفية رسم المناظر الطبيعية، حتى إنه وُصف برسام الضوء، لولعه بالألوان المضيئة والطبيعة والبحر. وتعد بورجوا من أبرز الأصوات الفنية الداعمة للحركة النسائية في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. وفي عمل يُحاكي الثورة السورية، قدمت الفنان التركية آزاد كوكر تحفة تتألف من لوحات في عنوان «حلب 2013»، استمدت اسمها من ثانية المدن السورية. وتنظر الفنانة من خلال عملها في حاضر المدينة وماضيها وكيف أعادت الحرب الأهلية تشكيل حلب من حيث معالمها وعدد سكانها. ولمن لا يعرف المدينة فهي ذات تعداد سكاني كثيف مكوّن من العرب والأرمن والآشوريين والأتراك والأكراد على سبيل المثال لا الحصر. الاختلاف والتعدد والتهجين في حلب جعلتها مميزة بالنسبة إلى الفنانة التركية، بحيث نجد مفهوم التدجين في صلب أعمالها، وهي تعبّر عنه بطريقة المزج بين الرسم واللصق لإبداع لوحات بعيدة الأفق. فن العمارة قدم برنامج تصميم «فن أبو ظبي» مجموعة واسعة من التصاميم المتنوعة بما في ذلك أعمال معمارية، وتجهيزات إضاءة، ومجوهرات، وحرف يدوية تقليدية، ركّزت على مختلف النواحي الجمالية الفريدة للثقافة الإماراتية. وانصبّ جانبٌ مهمّ من البرنامج على الجماليات المعمارية والعمرانية المتميزة لما تشتهر به مدينة أبو ظبي من معالم معمارية تحمل بصمات عدد من أشهر المعماريين في العالم. كما كُلّف المعماري الياباني شيجيرو بان تصميم مبنى متنقل على طراز الأسواق الشعبية مستوحى من البيئة والثقافة الإماراتيتين. واستضاف «فن أبو ظبي» جلسة حوارية خاصة بمشاركة نخبة من المعماريّين والفنانين العالميين استكشفت مدى التقارب بين الفن والهندسة المعمارية والعلاقة الوثيقة التي تربطهما بممثلين لنخبة من المتاحف العريقة وصالات العرض الفنية المرموقة، منهم الفنانة المفاهيمية جيني هولتسر، والمعماري جان نوفيل (مصمّم اللوفر أبو ظبي) وآلان سيبان، رئيس مركز بومبيدو للفنون والثقافة في باريس. وإضافة إلى المجموعة الواسعة من كتب ودوريات الفن المعاصر والتصميم وفن العمارة التي تنشرها هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، عرضت دار النشر الألمانية «تاشن» مجموعة من أحدث الكتب عن فنون العِمارة والفن المعاصر. كما شاركت في «فن أبو ظبي» مجموعة كبيرة من الفنانين الإماراتيين ومنهم محمد كاظم، نجاة مكي، فاطمة المزروعي، عبدالقادر الريس، حسن شريف وغيرهم. وتضمنت أروقة «فن أبو ظبي» أيضاً قسم آفاق، وقسم «إمضاء»، وقسم مجتمعات «فن أبو ظبي» الذي عرض مشاركات فنانين إماراتيين صاعدين بما يعكس الحراك الفني النشط في الإمارات. «دروب الطوايا»...الشعر لاكتشاف المدينة من المشاريع الجديدة في «فن أبو ظبي»، «دروب الطوايا»، وهي رحلة تجوب عدداً من المواقع في العاصمة الإماراتية. ويخصّص البرنامج ما يشبه المسار الذي تتناثر على جنباته فعاليات ثقافية مختلفة. ويقول القيّم على المشروع طارق ابو الفتوح ل «الحياة»، إنه استوحى الفكرة بعد بحث دقيق في تاريخ المنطقة. وأضاف: «تتوقف الحافلة خلال رحلتها في أربع محطات مهمة تُعَدُّ من أهمّ معالم العاصمة الإماراتية هي: منارة السعديات، وميناء زايد، وشاطئ الكورنيش، ومنطقة المارينا. واستضافت هذه المحطات سلسلة من الفعاليات والعروض الأدائية التي يقدمها حشدٌ من الفنانين والشعراء وعدد من المؤسسات الثقافية». استوحي عنوان مشروع «دروب الطوايا» من تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالماء والسفر ومسارات القوافل، وهو ما يشكل جزءاً لا يمكن تجاهله من تاريخ المنطقة. كلمة طَوِيَّة (ج. طوايا) كلمة عربية فصيحة بمعنى بئر الماء المبنية بالحجارة التي ظلت علامات ومرتكزات حافظت على الدروب التاريخية كما كانت منذ القدم، ويُستخدم الجمع طوايا بمعنى طبقات، وكأنَّ الأفكار والمفاهيم والقِيَم ستتكشّف تباعاً خلال البرنامج. يحتل الشعر مكاناً مركزياً في برنامج دروب الطوايا فالإبداع الشعري هو من أقدم أنواع التعبير الفني المرتبط بالسفر والترحال، فقد كان الشعر الشعبي أو النبطي الوسيلة الإبداعية المفضلة لدى سكان الإمارات في الفترات التاريخية السابقة. القصيدة مصدر الهام تتمحور فكرة البرنامج، حول الترحال وخبرة الطريق والتطلع للوصول لوجهةٍ نهائية، وكيفية تعبير الفن عن تلك الأفكار والأحلام كما عبّر عنها الشاعر اليوناني الاسكندراني قسطنطين كفافيس في قصيدته الشهيرة «إيثاكا» التي كتبها عام 1911. ولاستلهام قصيدة كفافيس كأحد مصادر الفكرة الأساسية لبرنامج دروب الطوايا دلالات عدة، فالشاعر اليوناني كان يعيش في الإسكندرية عندما كانت توصف بأنها مدينة عالمية بامتياز، مما يعكس الصفات الأساسية لمدينة أبو ظبي في الوقت الحالي وقد أصبحت مركز جذب عالمياً بمجتمعٍ متنوع وموقع جغرافي مركزي ومميز ومع رؤية تقدمية إلى المستقبل. صمم البرنامج نفسه كرحلة حيث يتوزع برنامج العروض على أربعة مواقع ذات أهمية دلالية تعبر عن فترات مختلفة للمدينة بين الماضي والحاضر والمستقبل، رابطاً كذلك المحطات المختلفة بأعمال فنية متحركة من طريق تدخلات لأربعة فنانين معاصرين في حافلات النقل العام. كلف الفنان المصري وائل شوقي، تحويل إحدى الحافلات إلى عمل فني يستوحي جماليته من الجِمَالِ السوداءِ اللّون وإلقاء أبيات شعر. وتولت الفنانة الاماراتية زينب الهاشمي، المعروفة بشغفها بتراث الإمارات من خلال عدسات الوسائط التجريبية والمواد الجديدة، تحويل الحافلة الثانية إلى منصة إبداعية. فيما تولت الفنانة الصينية تشاو فيه، تحويل الحافلة الثالثة الى عمل فني بصور وفيديو من عملها المعروف مدينة RMB . أما الحافلة الرابعة فحولها الفنانان العالميان إيليا وإيميليا كاباكوف إلى عمل فني وعرض شعري. وتجولت الحافلات الأربع في شكل دوري على خط حافلات مخصص لدروب الطوايا المتاح للجمهور وسكان المدينة. يتفاعل البرنامج مع التصميم الحضري للمدينة وخريطتها فيربط خط الحافلات بين مواقع لفضاءات فنية ومواقع تاريخية وأماكن عامة وتجمعات شبابية. ومن هذه المواقع سوق السمك في منطقة ميناء زايد، حيث خصص أحد القوارب المتحركة لاستضافة ثلاثة مراكز فنية هي «مركز الصورة المعاصرة» من القاهرة و «98 أسبوع» من بيروت و»أرت ويك» من أبو ظبي للفنانة عفراء الظاهري لإدارة ورش عمل وإنتاج فني يُعرض للجمهور خلال رحلة بحرية أمام ساحل المدينة. واستضاف كورنيش المدينة أمسية شعرية لعشرة شعراء إمارتيين على الشاطئ بالتعاون مع اتحاد الكتاب الإمارتيين، فرع أبو ظبي، وعرض هيب هوب لفرقة Speed Battles التي طورت برنامج كومبيوتر لرصد حماسة الجمهور والمارة، بالتعاون مع فناني هيب هوب من الإمارات Spinning Turtles. هيروكي أوميدا، فنان الصوت ومصمّم الحركة، قدّم لوحته الأدائية «أثناء الذهاب في حالة» التي تضمَّنت توليفته الحصرية من حركات الهيب هوب وفن «البوتو»، إضافة إلى الصوت والإضاءة. كما عزف محمود رفعت مقطوعة موسيقية معاصرة مرافِقة للفيلم الصامت «برلين: سمفونية مدينة عظيمة» الذي أخرجه والتر روثمان عام 1927. ومن العروض الادائية اللافتة، ما قدمه ثنائي تصميم الحركة سلمى وسفيان عويسي (سلمى تعيش في باريس وسفيان في تونس) من عرض حركي مشترك عبر الانترنت بعنوان (Here(s. اختيرت أبيات شعرية من الشعر الإماراتي النبطي والفصيح وكلف عدد من فناني الغرافيك هُم سالم القاسمي، وحمدان الشامسي، وديمة الأتب والمصمِّمات هديه بدري، وهالة العاني، وريم حسن، العمل على ابتكار تصميمات لوضعها على حافلات النقل العام في المدينة، فتحولت 20 إلى عروض متحركة تتجول في المدينة طوال اليوم على مختلف الخطوط التي تمر في وسط المدينة بالتعاون مع دائرة النقل في أبو ظبي. قدم البرنامج مزيجاً متنوعاً من الأعمال الفنية المعاصرة في مواجهة الحياة اليومية في المدينة بما في ذلك عروض حركية، وأفلام فيديو، وأعمال تركيبية فنية، وأمسيات شعرية. «فن وحوارات»... «كثبان وأمواج» عُقدت سلسلة «فن وحوارات» في «فن أبو ظبي» هذه السنة تحت عنوان «كثبان وأمواج»، وشملت تقديم أعمال فيديو وعروض موسيقية في الهواء الطلق، مقابل مبنى «منارة السعديات». وضم البرنامج الكثير من العروض الفنية المتعدّدة الآفاق، وعروضاً حية، وعروضَ أفلام، وموسيقى معتمدة على النباتات، وأعمالاً شعرية تركيبية. وإلى جانب هذا البرنامج الحافل شهدت الدورة الخامسة تنظيمَ معرض جديد في إطار سلسلة «فن وحوارات» في عنوان «البساطة سر الجمال» يركز على الأعمال الفنية المصغرة المستمدة من صالات العرض المشاركة في قسم الفن الحديث والمعاصر والتصميم. استمد عنوان المعرض من نظرية «الصغير هو الجميل» التي نشرها عالم الاقتصاد البريطاني فريتز شوماخر عام 1974 وقصَد من خلال العنوان أن الأشياء الصغيرة قد تكون أكثر تأثيراً وجمالاً. ومن الفعاليات التي شهدت إقبالاً جماهيرياً ملحوظاً، سلسلة «غوغنهايم أبو ظبي: حوارات الفنون»، التي تضمنت الكثير من جلسات النقاش العامة، بمشاركة نخبة من الفنانين المعاصرين الرواد الذين عرضت أعمالهم ضمن مجموعة الأعمال الفنية الدائمة لمتحف غوغنهايم أبو ظبي. وركزت الجلسات على الحوار العابر للحدود، على المفاهيم الفنية والإبداعية والسردية المختلفة بمشاركة حسن شريف، ومونيكا سوسنوسكا، ويانغ فودونغ، وأنجيلا بولوك، ومروان، وهاينز ماك. كما ناقش عدد من أصحاب الصالات الفنية ومديريها الإشكالية الثنائية للقيمة والفن، منهم جونسون تشانغ ولورينزو فياسكي ومحمد حافظ وإيزابيل فان إيند. كما استكشف مفهوم المكان والهوية عبر سلسلة من الأفلام في إطار برنامج الأفلام التي استضافتها «مؤسسة الشارقة للفنون» وتشرف عليها مديرة المؤسسة حور القاسمي في عنوان: «أين هُم العرب؟» بمشاركة أعمال لكلّ من جوانا حاجي توما، وخليل جريج، ورانيا اسطفان، ولمياء جريج، وجايس سلّوم. وقدم البرنامج تفاعلات فنية مختلفة لعدد من المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة التي تشهدها مدن عربية. وقدمت عروض حية سريعة لعازف البيانو والمؤلف الموسيقي ومخرج الأفلام الموسيقية «شاسول» الذي ابتكر لوحة موسيقية تخلط الصوت بالموسيقى والصور وترتكز على تجربته مع التأليف الموسيقي للأفلام، على خطى موسيقيين ومخرجين عالميين من أمثال جيري غولدسميث ميشيل وكوينسي جونز. كما قدّمت جولي فريشون وألكساندرين لوكلير منحوتات فنية باستخدام أساليب الطهو (في عنوان «كثيب رملي») ومصنوعة من مكونات محلية كالطماطم (البندورة) والكراميل المملح والبهارات، ودعتا الجمهور إلى مشاركتهما في العمل. وقدم راقص الباليه أليساندرو سياروني عرضاً تأملياً يدور حول مفهوم مرور الزمن (من دون عنوان: سأكون هناك لحظة موتِك) يبرز خفة اليدين وبراعتهما. ومثلت اللوحة الأدائية التي قدمها سياروني فصلاً ثانياً ضمن مشروع موسَّع يستكشف مفاهيم المعاناة والثبات وعدم الاستسلام.