يطاردنا الموتُ، يحاصرنا، يحوم حولنا، يفتك بالأرواح البريئة، يُزهق أحلام العذارى وزغاريد النسوة. موتٌ عابثٌ مُريب لا يترك برهة نَفَس أو شهقة آه. دمُ الأبرياء يرسم الخرائط الجديدة، يوزعُ الأدوار، دم الأبرياء يكتبُ مستقبلاً مُظلماً وحاضراً يزداد قتامة فيما القتلة يرفعون رايات السماء زوراً وبهتاناً، ينتحلون صفة مَن يكتب الأعمار ويرسم الأقدار، يزدادون همجية ووقاحة ويعطون دروساً حول كيفية الذبح ب «رفق وسلاسة»! أي حبر ظلّ له معنى، وأية كتابة تشفي؟ تصغرُ الأبجدية أمام دمعة أم، وتبهت الكلمات في حضرة الأجساد الغضة التي يقطفها القتلة في ريعان نضارتها، وتذبلُ الحروف قبالة ابتسامة طفل تجمدت قبل الأوان. ما معنى الوطن حين تضيق الأرضُ بأحلام بنيها، وما معنى الإنسانية حين يرتدّ الإنسان إلى جاهلية أولى، أو حين تتقلص المواطنة إلى حدود طائفة أو مذهب أو عشيرة أو جماعة وربما أقل من هذا بكثير، ما معنى البلاد حين لا تتسع لأغنية طفلة صاعدة على كتف النسيم، ولا يعود يُسمع فيها إلا جعير القتلة وصرير أنياب مصاصي الدماء؟ من كثرة الموت المجرم صرنا نحلم بميتة عادية ونشتهيها، متسائلين ألا يحق لأبناء هذي البلاد المتسعة لخراب عظيم، أن يمرضوا أو يهرموا، وأن تنتهي أعمارهم كما ينتهي النشيد، عوض أن يُقتلوا ويُذبّحوا ويتناثروا أشلاء في الطرقات والميادين؟ نطرحُ أسئلة العارف، ونبقى مصرين على الحُب والكتابة، على الشعر والموسيقى، نبكي الشهداء والضحايا ونفرحُ لرفرفة عصفور في سماء ملبدة، نقول: بجناحيه الصغيرين يمحو السحب القاتمة ويخترع شمساً جديدة. نكتبُ لنتيقن أننا لا نزال على قيد الحياة. *** لأنكَ الأعلى أصعدُ صوتي شوقاً إليكَ، ملء قلبي أهتف، صامتاً أصرخُ كي لا يسمعني أحدٌ سواكَ. أمضي في بريتي وحيداً، لأنكَ معي لا أخاف، تفيضُ عني وعن صنائعك كلها. سرّك في كل شيء، جوهرك في كل شيء، معك مع نفسي أكون، مع نفسي معك أكون، لا يعرفك إلاّ مَن عرف نفسه، لا يعرف نفسه إلا مَن عرفك، ملاذ المشتاقين والخائفين، مأمن كل نفس، رجاء الجميع، تسمعني وأسمعك، تراني وأراك، في زرقة سمائك أراك، في عشبة تفتت صخرة أراك، في عطر يهب من عنق امرأة، في نوتة صاعدة إليك، في اللون والكلمات، في الظلمة والأنوار، أراك فيَّ وفي سواي، في رعدة البدن وارتجافة الأماني، في كل ما تركته برهاناً عليك، في كل ما أوجدته سبيلاً إليك. بحثي عنك لم يتعبني، طريقي إليك شاقة... شيقة، الأشواك ممتعة والحفر، اسمك فاتح الدروب ومُدحرج الصخرة، حين ألقاك سأقول كل ما تعرفه، أقوله لأسمعه ويسمعني الآخرون، لأتطهر من أدران وآثام وبقايا تراب. صنيعتك أنا فهات يدك، خذني كما أنا بلا ثوب صلاة، كما خلقتني أول مرة، قبل قابيل وأخيه القتيل، قبل أمه وأبيه، عارياً إلا من عشقي لك، عارياً إلا من توقي إليك، أعدني كما كنتُ قبل ترابي، ذرة ضوء أسبح بين المجرات، قطرة ندى على خد وردة، صلاة خافتة في قلب طفلة. خذني إليك، تعبت من ترابي وأثقال أسلافي، لا يزيدني الشك إلا يقيناً، والبرد إلا إيماناً. احفظ بيتي وأسرتي، احفظ أهلي والأصدقاء ، احفظ روحي وكلمتي، اجعلني شمس أيامهم ونجمة صباحاتهم، اشفع لمن لا يدرك معني المجيء. أقف بين يديك ملهوفاً يقطر مني الوجد، عزائي أنك هنا، هنا وهناك، في كل ما كان، في كل ما سيكون، في كل ما لم يكن، في كل ما لن يكون.