في ذكرى مرور عشرة أعوام على رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات (أبو عمار)، فتحت أرملته سهى الطويل عرفات قلبها ل «الحياة» في حوار مطوّل تم على مدى يومين، وتحدثت فيه عن الكثير من الأحداث، من منع «حماس» الاحتفال بالذكرى العاشرة لوفاة «أبو عمار»، إلى ما نشر عن جهل زهوة اللغة العربية. أضحكها كثيراً الادعاء باعتناق «أبو عمار» المسيحية، لكنها أعربت عن حزن كبير من حال التبعثر والفرقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وقالت إن «أبو عمار» توقع ما يحصل اليوم في العالم العربي، وكذلك تقسيم العراقوإيران. سهى التي تعيش مع ابنتها في مالطا منذ 7 أعوام، لم تتغير في حماستها ودفاعها عن زوجها الراحل وإرثه الإنساني والسياسي. ودافعت أيضاً عن ابنتها زهوة، مؤكدة أنها ستقيم دعوى قضائية أمام المحاكم اللبنانية، رداً على ما تردد في إحدى المطبوعات اللبنانية من شك في هوية زهوة وانتمائها الوطني، وحديث عن عدم إلمامها باللغة العربية. بقيت سهى كما هي وكما يعرفها الجميع: صافية، نقية، بسيطة في حياتها، تركز على تربية ابنتها وتلقينها تراث نضال أبيها، متابِعة كلَّ شاردة وواردة في الشؤون الفلسطينية في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية، ومقدمة ما تستطيع تقديمه من خلال صداقاتها العربية والعالمية. وخلال الحوار، ألقت اللوم كاملاً على قيادة «حماس» في منع الاحتفال في غزة لمناسبة مرور عشرة أعوام على استشهاد «أبو عمار»، ووصفت حكومة «حماس» بالديكتاتورية، والمواطن «الغزي» بأنه رهينة لها، مشددة على أنه لا يمكن أن تفجَّر منصة احتفال من دون علم القيادة «الحمساوية» في غزة. وقالت بصوت حزين غاضب: «ما حدث أمر غير مقبول، أنا علاقتي ممتازة بجميع الفلسطينيين، وحتى من حماس وكذلك السلفيين، ولا أتدخل في الأمور السياسية، الأهم عندي هو أن أبو عمار هو من وضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال المجتمع الدولي وفي المحافل كافة، والمناضل الذي أعطى كل ذرة من حياته للقضية وللشعب، فمن العار أن تعامل ذكراه بهذه الطريقة. الفلسطينيون والعرب في أشد الحاجة اليوم إلى رموز وطنية أمثال أبو عمار». وأضافت: «الواقع أنني لا بد من أن أحمّل المسؤولية لحماس لأنها المسؤولة عن الأمن في غزة. إن حكومة حماس تتصرف كحكومة ديكتاتورية، وعلى هذا النحو تصرّفت عندما منعت الشعب الفلسطيني من الاحتفال بذكرى زعيم القضية. وهم بذلك لن يمحوا ذكرى أبو عمار على الإطلاق، بل زادوا النقمة على حكمهم. أبو عمار لم يكن زعيماً لمنظمة التحرير الفلسطينية، بل لكل الشعب الفلسطيني، وهو في وجدان كل فلسطيني وعربي. من المؤسف أن نرى الغزيين رهينة، وهم لم يكونوا كذلك في حياتهم، فلتكفَّ حماس عن المزايدة على حساب حرية أهلنا وأمنهم في غزة». وتابعت: «القضية الفلسطينية تمر في ظروف صعبة جداً، وكل فلسطيني يطمح الى نبذ الخلافات والأحقاد، بل العمل معاً لتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في دولة حرة مستقلة ومستقرة عاصمتها القدس». وضحكت سهى كثيراً عندما سألتها «الحياة» عما كتبه القسّ آر تي كندال في صحيفة «دايلي تلغراف» البريطانية عن اعتناق «أبو عمار» المسيحية قبل وفاته، قائلة: «هذا أمر مضحك فعلاً، ولا يمكن أحداً أن يصدقه. لقد أسلمت أنا والمئات على يد أبو عمار، كان مؤمناً جداً وفخوراً بنبيّه ودينه، مع احترامه للأديان الأخرى. ربما يكون ساير هذا القس أو استمع إليه، لكنّ هذا لم يغيّر قطعاً من إيمانه وعقيدته، وأذكر جيداً قوله عندما اتصلت به وكان يشاهد فيلم «آلام السيد المسيح»، إن هذا الفيلم مؤثر جداً، وإن ما في العقيدة الإسلامية الحنيفة هو عدم صلب المسيح، وردد لي ما في القرآن: وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّه لهم». وزادت: «أبو عمار زار الكنائس المختلفة في المناسبات الدينية، واحترم كل الديانات، وهو أوصى بدفنه في القدس الشريف». وتابعت أن عرفات «قضى آخر أيامه وهو يستمع الى القرآن في غرفة العناية المركزة، ونطق بالشهادتين قبل وفاته، وعليه فإن مثل هذه الأخبار هي جزء من الحملة الصهيونية لقتله مرة أخرى». وعن الخدمات الإنسانية التي تقوم بها في غزة من خلال مكتب للعمل الإنساني، قالت: «لم تعد هناك مكاتب، اذ هدِمت مع ما هدم في غزة منذ سنوات، لكن هناك متطوعات ومتطوعين يساعدونني في تقديم ما نستطيع تقديمه للمحتاجين، خصوصاً بعد حروب إسرائيل على غزة. بعد الحرب الأخيرة، كانت الأميرة حصة الشعلان، حرم خادم الحرمين الشريفين (الملك عبدالله بن عبد العزيز) تتصل بي لتخبرني عن الوضع الأمني، كما قدّمت الأميرة هيا بنت الحسين، حرم الشيخ محمد بن راشد، مساعدات على شكل جسر جوي لأهالي غزة. وقدم العلاج للعديد من الفلسطينيين رئيس الوزراء اللبناني السابق نجيب ميقاتي من خلال مؤسسته الخيرية الخاصة». وسئلت هل لها أي دور سياسي داخل فلسطين أو خارجها، فأجابت: «ليس لي أي دور سياسي على الإطلاق، ولا أطمح إلى ذلك». وأكدت أنها لم تقدم أياً من أغراض عرفات الشخصية لمتحف أبو عمار الذي أقامه ويشرف عليه الدكتور ناصر القدوة، ابن شقيقة الراحل، ووصفت جهوده في هذا المجال بالممتازة، مشيرة الى أن هذه أشياء خاصة. وتحدثت سهى أيضاً عن حياتها مع «أبو عمار»، وعن التركة الوحيدة التي تركها لزهوة ولها، وهي مذكراته، علماً أنها تزوجته عندما كان في سن ال 59 وهي شابة في ال 24، وقال في حينه ل «الحياة» في لقاء أجرته معه في تونس عشية انتقاله الى غزة: «أخيراً وجدت المرأة التي قبلت بي زوجاً على رغم معرفتها بنمط حياتي، ليكن الله في عون سهى. أنا في الواقع أرثي لحالها، فمهمتها شبه مستحيلة». ونفت أن تكون باعت مذكراته، كما أشيع، الى قناة «الجزيرة»، قائلة: «أنا لا أبيع دم أبو عمار، هذه المذكرات ملكي أنا وابنته زهوة»، مضيفة أنهما «بصدد تقرير متى تنشر هذه المذكرات التي تحتوي على معلومات قيمة وتُظهر مدى عمق صداقات أبو عمار الدولية، وكذلك نظرته السياسية الثاقبة». وأضافت: «لقد أعطاني أبو عمار هذه المذكرات قبل موته بفترة وجيزة ربما لأنه شعر أنه لن يعيش طويلاً، وقال: هذه ملك لك ولزهوة، حافظي عليها، فوضعتُها في مكان آمن». وتابعت: «عندما أقرأها، أشعر بأهمية الفترة التاريخية التي عاشها، أذكر جيداً عند انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، كان يومها حزيناً جداً، حينها قال لي: سترين بعد سنين طويلة، وربما لن أكون أنا على قيد الحياة، الدول العربية تقسم الى دول ودويلات صغيرة، ولن يكون هناك عالم عربي نتحدث عنه. وستتذكرين أنني قلت إن إيرانوالعراق سيقسمان». وعما بقي في ذاكرة سهى من أيام «أبو عمار» الأخيرة، قالت: «كل شيء باقٍ معي: إيمانه، وجهه السمح، بسمته، نظراته العارفة بما حصل له. هو لم يثق في حياته بالإسرائيليين. أذكر وصيته لي ولزهوة وجميع الفلسطينيين: تمسكوا بالثوابت». وأضافت: «ربما تتذكرين عندما تحدثنا في تونس عشية ذهابنا الى غزة، أنه كان متردداً جداً، بل هو ذهب لأن الخيارات انفضّت من حوله. لم يشعر رحمه الله بأنه ذليل أمام أحد في حياته، خصوصاً أمام الإسرائيليين، بل على العكس، كان يقول لي دائماً إن قضية فلسطين هي قضية العرب وصراع الأجيال، ولن أوقِّع أبداً على إنهاء الصراع. وكان يضيف: يريدونني أن أوقّع، لكني لن أوقّع والجولان وجنوب لبنان محتلان». وتضيف سهى وهي تبكي: «تسألينني ماذا أذكر وإلى ماذا أشتاق؟ أشتاق الى حمايته وطمأنته لي، فحتى عندما لم أكن أعيش معه، كنت أشعر أن هناك غطاء كبيراً يدافع عني ويحميني». عندما يُذكر أمام سهى أن التحقيق باستشهاد «أبو عمار» مسموماً زوبعةٌ إعلامية، تثور وتقول: «أبداً... أبداً، هذا غير صحيح على الإطلاق. أنا لا أستطع الحديث في شكل مفصل حفاظاً على سرية التحقيق، لكن علينا أن نتذكر أن من قام به هو فريق سويسري محترف من معهد الفيزياء للإشعاعات الفيزيائية. ولقد وجدوا أرقاماً عالية جداً وفائضة في رفاته وضريحه، وأكد هذا أهم خبراء اسكوتلنديارد البريطاني ديفيد باركلي». وتؤكد اعتقادها أنه استشهد، من دون أن تتهم أحداً، بل تنتظر نتائج التحقيق، كما تؤكد أنها وزهوة رفعتا دعوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية، وأن القضاء يأخذ مجراه، «لكن هناك من لا يريد للقضية أن تتقدم أو حتى مجرد فتحها لأسباب سياسية معروفة». وبالنسبة إلى تجاوب الرئاسة والسلطة الفلسطينية مع هذا التحقيق، تصفه سهى بالممتاز، وتقول: «أنا وزهوة، رغم ألمنا من فتح الضريح ومعارضة العائلة، وافقنا من أجلنا ومن أجل الشعب والأجيال الفلسطينية». وتتحدث سهى بأسى عن كيفية انفضاض الأصدقاء والزملاء من حول العائلة بقولها: «ليست هناك صداقات في السياسة، بل مصالح، لكن يبقى القليل القليل، يمكن حصره بأصابع اليد الواحدة. لقد نضجت وكبرت ولا أتوقع شيئاً من أحد». وعن العلاقة مع عائلة «أبو عمار»، تقول إنها جيدة، وهناك اتصالات هاتفية بين الحين والآخر. وماذا عن الرئيس الفلسطيني؟، تقول سهى إنها علاقة احترام ومحبة، ولديه مشاغل ومسؤوليات كبيرة جداً. وما الذي كان «أبو عمار» ليقوله لو كان حياً في الوضع العربي الراهن، تجيب بأسى: «لم يكن أحد يتوقع أن يصل الوضع العربي الى ما وصلنا إليه من تمزّق وضياع، ولا أعتقد أنه كان سيقف متفرجاً أمام ما يجري. كانت لديه قدرة عالية على المناورة، وهذا ما ساعده في خدمة القضية الفلسطينية». ورداً على ما قالته لي زهوة من أنها علمت الكثير عن والدها من والدتها، قالت سهى: «زهوة تتعلم الكثير عن والدها من خلال دراستها الجامعية، فهي تدرس الفلسفة والعلاقات الدولية، وأنا أخبرها حقيقة الأمور وأسرد لها الوقائع بدقة، وأحدثها عن والدها الإنسان وتعلقه بها. وهي تسألني لماذا لا أتذكر الكثير عن والدي سوى ما تقولينه وأقرأه وأسمعه في الراديو والتلفزيون؟ فأشرح لها ظروف حياته ونضاله». وعن وضعهما الأمني في مالطا، تؤكد سهى أنها تشعر بالأمان، وأنها وزهوة لا حماية لهما إلا حماية الله ورعايته. وتشدد على أنها سامحت زوجة الرئيس التونسي المخلوع ليلى بن علي بعد الخلاف الذي حصل بينهما وتدعو بالرحمة والفرج للجميع. وقالت إن ابنتها زهوة مثل مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم، يعيشون مشتتين بعيدين من ثقافتهم ولغتهم، وهي تكتب وتقرأ اللغة العربية كغيرها، لكن لأنها تعيش في الغربة منذ طفولتها، تفضل استعمال اللغة الإنكليزية. أما كيف تقضي أوقاتها وقد دخلت زهوة الجامعة، فتقول: «زهوة في حاجة إلى رعايتي، وهي اهتمامي الأول. أحب القراءة وأستقبل الكثير من الضيوف من أولئك الفلسطينيين الذين يزورون مالطا وأصدقاء أبو عمار القدامى وأهلي، وطبعاً اتصالاتي مع الداخل الفلسطيني يومية». طموحات سهى، كما تصفها، هي «إظهار الحقيقة في مقتل أبو عمار، ونقل رفاته إلى القدس، والتطلع إلى تخرّج زهوة لتخدم قضيتها ووطنها، وهذا لا يعني أنني أحضّرها لأي منصب سياسي، وهذا ما لم يتمنَّه والدُها أيضاً، فكان يقول: لا أريد أن تدخل معترك العمل السياسي، فهو شاق ومليء بالأكاذيب والأخطار».