احتفالات صاخبة، وأخرى مضادة! مناورات مباشرة، وأخرى خفية! شماتات واضحة، وأخرى مموهة! توعدات دنيوية، وأخرى إلهية! وقت إضافي، وآخر ضائع! خليط من الرغبة في البناء وشهوة العودة إلى صدارة السلطة، وكوكتيل من الرغبة في الانتقام وهدم المعبد على رؤوس من فيه! الرؤوس المدبرة والعقول المخططة على كلا الجانبين تقف متربصة وتحارب متيقنة من وعورة أرض المعركة! عوامل القياس كثيرة ومؤشرات الصراع عديدة. يغتال ضابط أمن الدولة المسؤول عن ملفات إخوانية في قلب حي مدينة نصر، فتتفجر الدعوات الشعبية على الجماعة التي «باعت نفسها ودينها ودنياها في سبيل مشروعها» والاتهامات التحليلية على «أولئك القتلة الذين كانوا قد أوشكوا على التمكن من مصر» وتبزغ اللجان الإلكترونية الإخوانية منددة ب «عبيد البيادة» الذين باتوا يلصقون أي تهمة بالإخوان الشرفاء ويوجه الأتباع والقواعد لبث سموم «دماء الضابط ليست أغلى من شهداء رابعة الأبرار» و «ضابط أمن الدولة ليس أفضل من خالد سعيد أو رابعة أو سيد بلال أو عماد عفت أو مينا دانيال أو جيكا». جيكا ومينا دانيال وغيرهما من شهداء الثورة من المصنفين إخوانياً في عهود سابقة لانقلاب الإرادة الشعبية على حكم الجماعة باعتبارهم «بلطجية» و «مأجورين» و «عملاء» و «خونة» تقف أرواحهم اليوم على أعتاب شارع محمد محمود تراقب ما آلت إليه أمور الثورة من لخبطة وشؤون الحكم من عرقلة. عراقيل ومصاعب والتباسات الطريق، سواء عبر خريطته الشعبية صوب المستقبل أو معالمه الإخوانية نحو الماضي، تجسدت يوم أمس في نصب التحرير التذكاري العجيب الغريب المتوسط لصينية ميدان التحرير الأشهر في ثورة يناير. خطوة الحكم الاستباقية لزرع نصب عجيب المنظر غريب البناء للسيطرة على مربع الميدان حيث الصينية المتنازع عليها في مجريات الثورة، وشارع طلعت حرب منبت المسيرات وملجأ الهاربين من غاز الداخلية وشارع الشيخ ريحان الذي احترق مجمعه العلمي إصراراً وترصداً ومحمد محمود حيث عيون الحرية التي فقدت قنصاً لا تقابلها سوى تكتيكات ثورية لإبعاد ذكرى محمد محمود بعيداً من هيمنة الحكم من دون إحراجه، وتحركات إخوانية لركوب الذكرى وامتطاء الفرصة وتشويه السلطة. السلطة - التي وجدت نفسها في عجلة من أمرها لافتتاح نصب تذكاري سياسي يخلد ذكرى «جميع الشهداء في التحرير ومحمد محمود والاتحادية وسيناء وكرداسة والعمرانية وجميع أنحاء مصر» (بحسب محافظ القاهرة) صبيحة يوم أسود شهد حادث قطار مأسوياً راح ينضم إلى سلسلة لا تتوقف من حوادث الإهمال والتراخي والتهالك وواقعة اغتيال ضابط في الأمن الوطني تنضم لنفق مظلم من الردود المتوقعة على انقلاب الإرادة الشعبية على حكم الإخوان - تنتظر رد الفعل الإخواني بنصب تهييجي سياسي اتضحت ملامحه وبانت مؤشراته وتأكدت توجهاته. أوركسترا الإخوان السيمفوني يعزف منذ الأمس مقطوعات «الثورة التي سرقها العسكر» و «الحكومة النحس التي أتت بكارثة قطار بشعة» و «انتقام السماء ممن قتلوا أطهر وأنقى من أنجبت مصر في رابعة». إلا أن هذا العزف الإخواني الفيلهارموني شذ عن قاعدته المعتادة هذه المرة بنغمات عن «حكمة الشرعية» ومعزوفات حول «تغليب الإرادة الشعبية» والتي هي في القاموس الإخواني لا تخرج عن ثالوث «مرسي والصندوق والدستور». الدستور الذي أشار إليه «التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب» في رؤيته الاستراتيجية للخروج من الأزمة الحالية هو نفسه دستور الإخوان، والشرعية التي طالب بها هي نفسها شرعية مرسي، والصندوق الذي أصر عليه هو صندوق الجماعة، ولكن ب «لوك» جديد قوامه الضبابية وإطاره المطاطية وهدفه التشتتية. ففي الوقت الذي تكثّف فيه قواعد الجماعة مؤثراتها البصرية وشخبطاتها الجدارية المشوهة للمؤسسة العسكرية والسابة لضباطها واللاعنة لجنودها يتحدث البيان عن جيش مصر النواة الصلبة لمصر والضامن لاستقرارها والمؤمن لمستقبلها والمشارك في تنميتها. وبينما لجان الإخوان الإلكترونية تصب جام الغضب وكل الحبق على الشعب الانقلابي الذي عشق البيادة، يمجد البيان في أبناء مصر من المسلمين والمسيحيين شركاء بناء الحضارة، وفي المقدم منهم الشباب والمرأة. وبينما المصريون يستعدون للاستفتاء على الدستور الجديد بعدما تجرعوا مرارة الدستور الإخواني «أعظم دستور في التاريخ»، يذكّر البيان بأهمية سيادة الدستور «الإخواني» مع الإقرار بضرورة تحقيق توافق أكبر حوله بتعديل بعض مواده. وتمضي مناورات الجماعة المتأرجحة بين كسب الوقت بحرق الأرض تارة وتشتيتها تارة أخرى واستخدام كل الوسائل المريعة المبررة بسمو الغاية. غاية الإخوان وأملهم هو البقاء على قيد الحياة من دون الاضطرار إلى العودة للعمل تحت الأرض، وغاية المصريين وأملهم هو البقاء على قيد المدنية الحديثة من دون الوقوع في مصيدة حكم ديني أو كمين سلطة ديكتاتورية أو ضياع الدولة بحكمها وسلطتها، وما مناورات الأيام الحالية إلا جزء من رسم صورة مصر المتنازع عليها. وبين سلطة مسيطرة وجماعة متعجرفة، وقبضة أمنية تميل للحديدية ومناورة إخوانية تجنح للمراوغة، واحتفاء أمني بمحمد محمود واستقتال إخواني لركوب الذكرى، وصورة لمرسي بملابس السجن البيضاء واغتيال لضابط أمن بإسالة الدماء الحمراء، وجبهة رافضة للمصالحة من منطلق القوة والقبضة وتحالفات متمنعة على رغم الرغبة في القفزة والعودة... تمضي مصر قدماً من إحياء ذكرى إلى بناء نصب في أجواء مناورات وانقضاضات وتوعد بعقاب دنيوي حيث الاعتقالات والمحاسبات والإعدامات، فإن تعذّر فتهديد بانتقام إلهي وإن ظل المخطئ والظالم غير محددي الهوية.