مع زيارة فرانسوا هولاند إلى إسرائيل التي لم تقتصد في الاحتفاء بالزيارة، ومع اتّضاح الميل الفرنسيّ إلى التشدّد مع إيران في الموضوع النوويّ، والرغبة في دعم ميدانيّ أكبر للمعارضة السوريّة «المعتدلة»، توجّه المدافع اللفظيّة العربيّة والإيرانيّة فوّهاتها إلى فرنسا. إنّها، اليوم، العضو المرشّح بقوّة للحلول محلّ الولايات المتّحدة الأميركيّة في عرشيها الإمبرياليّ (في لغة اليسار) والشيطانيّ (في لغة الإسلام الشيعيّ الراديكاليّ). والمهمّة سهلة يكفي لإنجازها مدّ يد خفيفة إلى الذاكرة وأخرى أشدّ خفّة إلى الأرشيف: ففرنسا هي التي استعمرت الجزائر استعماراً استيطانيّاً مديداً وقتلت «مليون شهيد» من شعبها، كما فرضت انتدابها الوصائيّ على سوريّة ولبنان، وشاركت البريطانيّين والإسرائيليّين هجومهم على مصر في 1956، فيما زوّدت إسرائيل قنبلتها النوويّة. ولأنّها لم ترو غليلها بعد هذا كلّه، تدخّلت قبل أشهر فحسب في مالي، غير مدركة أنّ زمن الاستعمار ولّى إلى الأبد. وفي هذه الغضون يُسحب من التداول مديح الجنرال شارل ديغول ل «موقفه الشريف والمشرّف» في 1967، والمحاولات الفرنسيّة الحميدة للتمايز عن السياسات الأميركيّة في الشرق الأوسط وفي العالم. في المقابل، فإنّ الولايات المتّحدة «بدأت في الآونة الأخيرة تتفهّم»، كما أُجبر رئيسها باراك أوباما «على الاعتراف بالواقع». والتفهّم والانجبار والواقعيّة تضفي الأنسنة على صاحبها فلا يعود شيطاناً رجيماً. لا بل غدا التفاهم مع الولايات المتّحدة وعلى رأسها أوباما («العبد» بحسب شاعر ممانع) يصبّ «في مصلحة المنطقة والعالم». وهنا أيضاً، وفي انتظار أن يجدّ جديد كأنْ يفشل الحوار المستجدّ مع إيران، يُسحب من التداول التذكير بمأساة الهنود الحمر، وحروب جونسون ونيكسون في فيتنام وكمبوديا، ومكائد هنري كيسنجر عندنا وعند سوانا، ناهيك عن العنصريّة التي يعانيها السود في الولايات المتّحدة. أوليس باراك أوباما نفسه من الأفارقة الأميركيّين ومن صلب أب مسلم. فعلاً، لكلّ مقام مقال. هذا ليس كاريكاتوراً عمّا يحصل على جبهات الكتابة والخطابة والتلفزيون. إنّه ما بدأ يحصل فعلاً. ولم لا، إذ بين ليلة وضحاها انتقلنا من «أمّة عربيّة» إلى «أمّة عربيّة وإسلاميّة» من غير أن يستوقفنا الفارق الذي يُحسب بمئات الملايين بين التسميتين. وبعضنا ينتقل اليوم إلى «مشرقيّة» ليس معروفاً رأسها من حذائها. والحال أنّ هذا الواقع، منقولاً في تلك النصوص، إنّما هو الكاريكاتور بعينه. فبعض المحلّلين يرون اليوم أنّ فرنسا إنّما تحاول، بمشاركة القوى الأوروبيّة الأخرى، أن تملأ بعض الفراغ الذي يخلّفه تخفّف أميركا من التزاماتها في العالم. وإذا صحّت هذه الرواية، كان ما يقدم عليه فرانسوا هولاند استجابة حرفيّة لما طالبنا به فرنسا وأوروبا عقداً بعد عقد. ذلك كلّه ليس مهمّاً. فبين سبت وأحد يمكن للمعاني والدلالات أن تنقلب انقلاباً يُجيزه اصطفاف الآخرين «معنا» أو «ضدّنا»، أي مع إيران خامنئي وسوريّة بشّار الأسد أو ضدّهما. هذا يحصل لثقافة سياسيّة امتهنت هجاء جورج دبليو بوش لقوله ذات مرّة: من ليس معنا فهو ضدّنا.