غداة أسبوعين على «الأربعاء الأسود» العراقي البغدادي، في 19 آب (أغسطس)، أذاعت وزارة الخارجية السورية بياناً مفصلاً لخص الحجج التي أدلت بها الوزارة على رؤساء البعثات الديبلوماسية بدمشق، وردت على الموقف العراقي الذي تولى رئيس الوزارة، نوري المالكي، ووزير الخارجية هوشيار زيباري، على قدر أقل، صياغته واعلانه في أعقاب التفجيرات المدمرة. وشدد البيان السوري على مسائل يتصل أبرزها وأهمها بتوقيت الحوادث وبمواقف سورية من شؤون عراقية أعلنت في أوقات بعينها. فيذكر بيان الوزارة السورية، في 2 أيلول (سبتمبر)، ب «سبق» سورية «في ادانة التفجيرات الإرهابية التي أصابت وزارتي المال والخارجية في بغداد». وينوه البيان، في معرض نفي «مصلحة سورية من وراء التفجيرات»، بسبق سوري آخر هو فتحها سفارتها ببغداد «في مقدم الدول التي فتحت سفارتها» هناك. والحجة الثالثة هي تبادل زيارات المسؤولين بين البلدين، وتواتر هذه الزيارات. والرابعة هي اعلان إقامة مجلس للتعاون الاستراتيجي الشامل «قبل يومين من وقوع التفجيرات»، في أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي. والمالكي هو المبادر إلى تهمة سورية بإيواء قيادة الجناح البعثي - ورأسيه محمد يونس الأحمد وسطام الفرحان، الى 177 متورطاً آخر، الذي يحمله التبعة عن أعمال تفجير واغتيال كثيرة آخرها، موقتاً من غير شك، تلك التي قتلت العشرات من كبار موظفي وزارتي الخارجية (32 موظفاً) والمالية، و «صغارهم». والى 2 أيلول، يوم اعلان البيان الوزاري السوري، اقتصر عملياً رد سورية على دعوة العراق الى الاحتكام الى... سورية نفسها، عوض الاحتكام الى الرأي العام العربي والدولي من طريقي الشاشة التلفزيونية (بث اعترافات مسؤولين مفترضين عن الأعمال الإرهابية)، والهيئة الأممية (طلب انشاء محكمة دولية تنظر في الجرائم وتحقق فيها). وأشار الموظفون السوريون المتفرقون، في دوائر الرئاسة و «الإعلام» والخارجية والأمن، على الدولة العراقية بالإجراء الذي عليهم النزول عليه، والتماسه من ساسة سورية، وهو إرسال «وفد أمني يحمل الأدلة والوثائق الحقيقية(...) عمن يقف وراء تلك التفجيرات»، الى موظفي الدوائر السورية. و «إذا ثبتت صحة هذه الإدعاءات»، وليس الأدلة على ما قال البيان السوري قبل جزء من جملة، أي إذا رضي الموظفون السوريون بها، وطابقت معايير اليقين التي يأخذون بها، «فإن سورية جاهزة للتعاون، وستتخذ الإجراء المناسب». ولا يلزم الوعد بالتعاون السوريين شيئاً محدداً، على شاكلة وفد أمني أو ديبلوماسي، أو لجنة تحقيق مشتركة، أو استكمال مناقشة مسألة سبقت مناقشتها بين الدولتين مثل مراقبة الحدود المشتركة بينهما، أو مراقبة بعض اللاجئين العراقيين والمتخفين بسورية. فوزارة الخارجية السورية، على رغم اشادتها بسياستها وغيرتها على العراق ووحدته وسيادته وأمنه، تعالج مسألة الأعمال الإرهابية في العراق، ومطالب الدولة العراقية من الدوائر السورية الأمنية والسياسية إبعاد بعض البعثيين أو «ردهم»، كأنها مسألة طارئة وجديدة، ولم يسبق أن تداول عراقيون وسوريون الرأي فيها. وهذا يخالف ما ذهب اليه العراقيون، وأعلنوه مرات لا تحصى، ويجافي «المنطق»، على ما يكرر الرئيس بشار الأسد. ويسكت السوريون عن طلب عراقي بإرسال السوريين وفداً أمنياً يشارك في التحقيقات العراقية في أعمال التفجير الأخيرة. فهم يريدون النأي بأنفسهم عن الانخراط في اجراء فعلي تترتب عليه نتائج ملزمة. ويقرر الموظفون السوريون وحدهم سلفاً جدول أعمال الوفد العراقي. وهم يعلمون وحدهم ما هو «الإجراء المناسب» الذي (قد) يتخذونه إذا «ثبتت الإدعاءات»، فيقول وزيرهم «ان التركيز الآن يجب أن ينصب على حادثة تفجيرات الأربعاء الدامي، ومن يقف خلفها». وهو يتلقف الخلافات العراقية، الرسمية وغير الرسمية، في المسألة، ويعول عليها تعويل العالم بأن «من» دبروا الأعمال الإرهابية هذه، وغيرها كثير، ليسوا واحداً، لا على معنى الشخص الواحد، ولا على معنى الجهة أو الطرف. فهم على مثال جريمة اغتيال رفيق الحريري، ثم على مثال الجرائم التي أعقبتها، كثر، وكثيرو المصادر والمشارب والسوابق والأدوات والمصائر. وتتولى مستويات التنسيق بين الجماعات والشلل والأواني الإرهابية و «السياسية» وإسنادها الدلالة الى اتجاهات متعارضة، أو يفترض فيها التعارض. ومن العسير على التحقيقات، بالغاً ما بلغ تنسيقها وضبطها وتدقيقها، تعقب حلقات «سلاسل» التنسيق والإسناد هذه على نحو متصل وثابت وحقيقي. ويعول المخططون المهرة، والمتمرسون في منازعات المشرق، وهم يخوضون غمارها وأوحالها يشتركون في صنعها منذ 40 عاماً على أقرب تقدير، على كسر احدى الحلقات المفصلية، في سلسلة من السلاسل على مثال خطف «الإسلامي» أحمد أبو عدس، وتصوير شريطه، وإخفائه أو قتله، والإشارة اليه سائقاً شاحنة «الميتسوبيشي» القاتلة، فيضطرب الاتصال والثبات. وتبدو التهمة «سياسية». وهذه الصفة هي أقذع ما يلصقه الموظفون والقادة السوريون بواقعة جنائية وارهابية. والحق أن فحص الحجة السورية يقع على «اتفاقات»، على قول المتصوفين العاميين، ومصادفات تطاول التوقيت، غريبة. فلا ريب، مثلاً، في ادانة «سورية» أعمال الإرهاب في العراق. ففي 10 آب قتلت انفجارات ببغداد والموصل 48 قتيلاً، وجرحت 250 جرحاً ثخيناً. ووقع الانفجار الكبير في خزنة، القرية الشيعية بجوار الموصل، وقتل 34 ضحية. وغالباً، لا يشك أحد في نسبة مثل هذا الانفجار الى «القاعدة» أو «دولة العراق الإسلامية». وكان وفد عسكري وديبلوماسي أميركي يحط بدمشق بعد نحو شهرين من زيارة وفد سابق العاصمة السورية. وغداة الانفجارات هذه، ذهب قائد القوات الأميركية بشمال العراق، الجنرال روبرت كالسن، الى ان «القاعدة»، و «دولتها» المزعومة، تتمتع بقوة مالية وعملانية كبيرة، في الموصل على وجه التعيين. ورأى الجنرال الأميركي أن في مستطاع «القاعدة»، «القوة العنيدة»، «استعادة قوتها على الضرب (و) شن هجمات ضخمة تستهدف بشكل أساسي قوى الأمن العراقية»، «الهشة». وفي 14 آب، وكان انقضى يومان على انفجار خزنة، عُلم ان الوفد الأميركي الزائر، في رئاسة الجنرال «الأمني» مايكل مولر، على رغم تصدر فريد هوف (مساعد ميتشل) الاسمي، قدم الى الموظفين السوريين المفاوضين لائحة بأسماء قيادات مقيمة بدمشق، وتقوم على تمويل الأعمال الإرهابية في العراق، وتنظم تسلل المولجين بها. وبين القادة «شخصية بارزة» في حزب البعث العراقي هو محمد يونس (الأحمد)، أحد المطلوبين العراقيين المَسميين بالاسم. وزعمت مصادر ديبلوماسية أن محمد يونس هذا طردته سورية، و «ليست له أهمية تذكر من حيث العمليات العسكرية على الأرض». وقالت مصادر «عليمة» أخرى، تحت الستارة نفسها من التعتيم والتكهن والاستشراف والمصادفة، أن واشنطن دعت فيصل المقداد - نائب وليد المعلم، ومن «صعقه» خبر تجديد العقوبات الأميركية في حق سورية، ومروج «خبر» زيارة أوباما الى دمشق - الى زيارة واشنطن، ومناقشة «موضوع العراق» مع الموظف الديبلوماسي. وفي معرض اعلان بغداد عزم نوري المالكي على زيارة دمشق، أبدت الحكومة العراقية رأيها في زيارة الوفد الأميركي دمشق، وفي مفاوضاته. فقالت ان مسائل الأمن العراقي ليست شأن الولاياتالمتحدة، ولا موضوعاً تناقشه هذه مع سورية، و«المسائل الأمنية قضية عراقية داخلية». ونفت السفارة الأميركية ببغداد حقيقة «خلافات» مع الحكومة العراقية، وذهبت الى ان الوفد الأميركي الى دمشق يناقش «مسائل تهم البلدين، بينها مسيرة السلام في الشرق الأوسط». ويخالف الإجمال الأميركي الرسمي التفصيل «الديبلوماسي» والأمني الدمشقي، أو الغيرة العراقية، معاً. وفي اليوم التالي، 13 آب، أجمعت المصادر على أن المحادثات الأميركية – السورية تطرقت الى «التعاون الأمني (على) منع التسلل (من سورية) الى العراق وتعزيز الأمن الاقليمي». وبينما كان المالكي يدعو حزبه، في مؤتمره الخامس عشر، الى اختيار «تحالفات سياسية عراقية على أسس وطنية لبناء عراق موحد بعيداً من التحزب والطائفية»، مستبقاً انشاء «الائتلاف الوطني»، الشيعي والايراني الميول فعلاً، ومجدداً «تحالف دولة القانون» المنتصر في انتخابات مجالس المحافظات – قتل متفجران انتحاريان 17 عراقياً ايزيدياً، بسنجار، شمال العراق. وينسب قتل الايزيديين، شأن قتل الشيعة والمسيحيين، في المحافظات المختلطة والشمالية، الى «القاعدة»، من غير مناقشة. والحق أن نوري المالكي نفسه كان يعد العدة لمناقشة المسألة الأمنية مع السوريين في أثناء زيارته الوشيكة الى الجار البعثي. وهي الزيارة التي سبقت الهجومين الانتحارين بيوم واحد، وأعلن في ختامها الزائر العراقي ومضيفوه السوريون انشاء مجلس تعاون استراتيجي، على عادة قوية في تعويض هزال الانجاز بواسطة النفع الكلامي. ولا ريب في أن الزيار كانت اخفاقاً ذريعاً يتحمل ساسة سورية المسؤولية عنه. والقرينة على الأخفاق التباين الصارح بين الرأي العراقي وبين الرأي السوري في المحادثات، حين الانتهاء منها. فذهب الرأي السوري، على ما هو معتاد، الى ان المالكي والأسد «بحثا في المستجدات على الساحة الإقليمية» أولاًن ثم «الاتفاقات الموقعة (بينهما) وأهمية وضع الآليات المناسبة لضمان تنفيذها(...) وسبل بناء علاقات وتعاون استراتيجي شامل بين البلدين الشقيقين». فالزعيم السوري لا يرضى مناقشة ما هو أقل من «إقليمي» أو «استراتيجي شامل»، ولا تليق به مناقشته. ولكن الطرف الآخر، العراقي، قال أن المالكي تناول مع مضيفه السوري «التحديات الإرهابية التي تمكن (العراق) من تجاوزها»، و «إعادة بناء القوات العراقية، واعتمادها على قدراتها الذاتية». وهذا يتطرق الى محاربة الإرهاب، من وجه، والى تعاظم استقلال القوات العراقية، والدولة العراقية تالياً، عن القوات الأميركية المنكفئة الى ثكناتها ما أمكن، والساعية في حماية انسحابات تكذب الزعم الإيراني، والتمتمة السورية، انها بين خيارين: إما المضي على قتال «أهلي» وإما جرجرة أذيال الهزيمة. ولا يرك بيان المالكي لبساً في المسألة: فما ناقشه رئيس الحكومة العراقي، العاقد العزم على الاستقلال السياسي عن الجماعات المذهبية والأهلية والإقليمية في الداخل، هو «استعادة السيادة الوطنية والانفتاح الدولي على العراق الذي أعطاه قوة». ويرد بند السيادة الوطنية العراقية، مشفوعاً بالانفتاح الدولي، على المحادثات السورية - الأميركية الأمنية وتصدي الأميركيين للمفاوضة عن العراق، وعليه. ويبطل زعماً سورياً وايرانياً مشتركاً ان العراق لا يزال بلداً محتلاً، ويسوغ احتلاله دوام «مقاومة» وطنية واسلامية مشروعة. وكان مسوغ السكوت السوري الطويل والمطبق عن الاعمال الإرهابية، وهو ضمناً مسوغ البوابة السورية على العراق ودخول آلاف الجهاديين منها، اضطلاع الجهاديين بمقاومة الاحتلال. وغداة انفجار الاحتجاج العراقي على ايواء ساسة سورية وموظفيهم رؤوس المنظمة البعثية، في 3 أيلول، زعم بشار الأسد ان الاحتكام العراقي الى محكمة تحقيق دولية في الأعمال الإرهابية هو تدويل. والتدويل هو ضمناً أمركة: «منظمات الاممالمتحدة محكومة بعدد محدود من الدول». والدول الغالبة هذه، والرئيس السوري يستميت في توسيطها، قراراتها «لن تكون لمصلحتنا». ولم يشر، طبعاً، الى المحكمة المختلطة، اللبنانية - الدولية، في اغتيال الحريري، إلا أن ظلها طاغ. و «كل العراق مدول»، على ما تلطف الرئيس السوري بالقول بعد أسبوعين على مناقشاته «الاستراتيجية» و «الإقليمية» مع المالكي «المدول» بدوره. وهو لم يذهب الى هذا الرأي في الأسبوعين المنقضيين، بل استقبل المالكي وهو عليه. وعلى هذا، يستحق العراق «المدول»، ورئيس وزرائه «المدول» كذلك، «مقاومة» عربية مستمرة. و «اقتصرت» أخبار العراق، في اليومين التاليين، على تظاهرة صحافيين ببغداد، تضامنوا مع زميل لهم كتب تحقيقاً تناول حادثة سرقة مصرف الرافدين في الراوية، قتل السارقون فيها 8 من الحراس، وضلع فيها ضابط من الحرس الرئاسي يتعهد حراسة نائب الرئيس العراقي، عادل عبدالمهدي، أحد المرشحين الدائمين الى رئاسة الوزارة عن «المجلس الاسلامي الأعلى»، منظمة آل الحكيم «الفيديرالية». والتظاهرة هذه، والمسألة التي صدرت عنها وهي قيام الصحافة بإزاء القضاء والأمن ونافذي السلطة نصاب مراقبة، من القرائن على دبيب بعض النبض المدني في دولة ومجتمع عراقيين امتحنا طوال نصف قرن امتحاناً مدمراً. وحضن نوري المالكي، وهيمنته على مرافق اعلامية عامة، الدبيب هذا. وحضانته ليست منزهة عن الغرض، على ما يقول من لا ينطقون ولا يتنفسون الا عن هوى. وهي وجه من وجوه المنازعة على المصالح، على نحو ما تولد الحريات أو توأد. وخلفت، فيما خلفت، رداً محموماً وطويلاً من عادل عبدالمهدي (نشرته احدى الصحف اللبنانية تاماً). وكان الرجل ثالث مجلس الرئاسة الذي ندد بيانه باقتراح نوري المالكي انشاء محكمة دولية تحقق في الأعمال الارهابية التي تضرب العراق، وتنظر في دعاوى استرداد الارهابيين اللاجئين في دول تؤويهم. ووصف البيان (9 ايلول/ سبتمبر) طلب المالكي ب «غير القانوني»، واجراءات الاقالات الامنية ب «غير الدستورية» و «التشهيرية». وانضم اليه، في مجلس الرئاسة، نائب الرئيس الثاني، السني العربي، وهو يداوي تحفظه عن سياسة المالكي بدواؤ «العروبة» السوري. وأما طالباني فخلافه الفيديرالي مع المالكي مستحكم. وغداة الانفجارات القاعدية والشمالية المتواترة، وظهور الخلاف الأميركي – العراقي وموضوعه دور الولاياتالمتحدة في مفاوضة السوريين على أمن العراق وحرص الأميركيين على علاقات عراقية - سورية أمنية هادئة ما أمكنن (بينما القوات الاميركية تمهد لانسحابات يوجب بعضها على القوات هذه عبور العراق من الشمال والغرب بمحاذاة الحدود العراقية – السورية، وفي المناطق المختلطة المضطربة، الى المخرج الجنوبي في انتظار اتفاق مع تركيا على الانسحاب من بوابتها الموصدة). وإبان انفجار الخلاف في دوائر الحكم وبين أجنحته المتجافية – علا صوت الموظف السوري، مساء 13 آب، وهو صوت «سورية» بديهة، «يدين بشدة العمليات الاجرامية التي استهدفت مواطنين عراقيين في بغداد والموصل». وعقلت المفاجأة، مفاجأة اقدام وزارة الخارجية السورية على التنديد بالاعمال الارهابية التي تضرب العراقيين منذ شتاء 2003، ألسنة المراقبين والسياسيين. فعلى رغم انقضاء 6 سنوات ونصف السنة على الفظائع والروائع العراقية، واقرار التبادل الديبلوماسي في أواخر 2006 ومباشرته في أواخر 2008 (وتقديم سفير العراق بدمشق أوراق اعتماده في شباط/ فبراير 2009)، وهذا لا يصنف سورية في مقدمة من انشأوا علاقات ديبلوماسيةن على خلاف الزعم السوري) لم يدنها موظف سوري بعد ادانة واضحة وصريحة. وحار المراقبون في تعليل الادانة المفاجئة، فذهب بعضهم الى تعليلها بصفقة أميركية – سورية تقضي بتسليم مطلوبين من «القاعدة» والبعثيين الصداميين الى العراق لقاء «انظمة تسلح عسكرية وأمنية أميركية». وخمن بعض آخر في رغبة سورية في اعلان «البراءة» من أعمال العنف، «مع دخول الطرفين محادثاته أمنية». وزعم بعض ثالث أن التنديد ثمرة «فزع دول الجوار من عودة الاقتتال الطائفي»، وتنصل من التورط في الاقتتال عشية انتخابات عامة آتية. وهذا كله جائز. ولكن سوء الظن يحمل على تذكر سوابق لبنانية أقل استقامة منطقية وعقلانية مصلحية. ويسكت العراقيون عن لبنان، والسياسة السورية فيه، كرمى «حزب الله»، على الأرجح. ويذكرون بالسابقة السورية الكردية تعويضاً. فعشية شن «فتح الاسلام» معركتها على الجيش اللبناني، في أيار (مايو) 2007، دارت اشتباكات على مقربة من الحدود السورية – اللبنانية، في الأراضي السورية، بين اسلاميين نسبوا الى «جند الشام» والى جماعات غير معروفة، وبين قوات أمن سورية. وأبرزت دمشق الحادثتين قرينة «حقيقية»، و «غير مفبركة» أو ملفقة، وغير اعلامية، على تربص الارهابيين بها، وانتقالهم الى لبنان حيث يؤويهم «اخوتهم» السنة، ويمولهم زعيم السنة، ووجه «14 آذار» (مارس)، ابن رفيق الحريري، «الشيخ» سعد الحريري. وذهب مراقبون، يومها، الى ان دمشق تعد العدة وشيكاً الى «أمر» في لبنان. ولم تر «سورية» في اقامة شاكر العبسي في سجونها الأمنية نحو العامين، ولا في خدمته في أمرة أبو مصعب الزرقاوي في الأردن وضلوعه في اغتيال الموظف الأميركي الأمني، فولي، في 2002، ولا في التقاط اجهزة التنصت الأميركية مخابرة من الزرقاوي وهاتفه النقال الى مساعديه في الاردن مصدرها احدى الثكن السورية (ورقم المخابرة مدون في عدد من المقالات والكتب التي تباع في الأسواق) - لم تر دمشق في هذا كله دليلاً غير ملفق على ضلوعها في خلافة «فتح – الاسلام» «فتح – الانتفاضة»، وخلافة العبسي أبو خالد العملة، نزيلها وصنيعتها وآلتها منذ عام 1982 الميمون، ورأس «فتح الانتفاضة» في لبنان. ولا يزعم ما تقدم للتو أن الموظف السوري الذي اعلن البراءة فجأة من اعمال الارهاب كان يعلم أنه يمهد لتسويغ براءة «سورية» من ارهاب وشيك يدفع الموظفون السوريون تهمته من طريق التلويح بادانتهم القريبة والمتأخرة آخر حبات العقد الطويل والمكتظ. ولكن مفاجأة التنديد، في الأحوال كلها، لا تقوم مقام البينة على البراءة اللاحقة والمسترجعة. والبينات على البراءة ينبغي البحث عنها في مواضع وسياقات أخرى. أحصت العجالة بعضها (العلاقات السورية - الأميركية، العلاقات العراقية - الأميركية، المنازعات العراقية الداخلية، المنافسة الإقليمية، الأواني الإرهابية المستطرفة...). وعلى المثال هذا، مثال الاتفاقات والمصادفات الاستباقية والمستعادة غب الحادثة أو الحوادث، سكتت «القاعدة» (او «دولة العراق الاسلامية») نحو أسبوع عن نسبة انفجارات 19 آب الانتحارية، تمادى العراقيون في أثنائه في التشديد على دور البعثيين وابرازه على التلفزيون. وغداة الأسبوع هذا، أذاعت «دولة العراق الاسلامية»، في 25 آب، بياناً أقر بأن مقاتليها «تحركوا لضرب معاقل الكفر» و «الحكومة الصفوية». وينبغي أن يقوم هذا حجة دامغة على مسؤولية «القاعدة»، وعلى انتفاء مسؤولية سطام الفرحان أو غيره من بعثيي المنفى السوري الأخوي. وردت الحكومة العراقية المالكية على البيان باذاعة اعترافات قاعدي تدرب في الاراضي السورية، وفي مرفق أمني عسكري، على «القتال» في العراق، وهو يقصد الاغتيال والذبح. وبيان «القاعدة»، أو «الدولة» المزعومة، شأن سكوت البعث العراقي وأجنحته عن نفي مسؤوليته، قد يصلح دليلاً على براءة فصيل أو جناح أو فريق في «الحالة الارهابية» العريضة من هذه الفعلة أو تلك. وقد يصلح صدوعاً بأمر من عل أو طلب من مفتاح أو مستوى في «سلسلة». ولكن النهج السوري حريص أولاً على الا يتبدد شك من الشكوك، ولو توجه هذا الشك اليه وعليه. فحرصه الأول هو على دوام كثرة متهميه وتفرقهم، وغرقهم في العماية التي اوقعهم فيها الارهاب ومنظماته ومزج شلله بعضها في بعض، بينما تنتصب «سورية» واحدة ومتماسكة ومنطقية عقلانية وأخلاقية. وهذه الحال، المزدوجة، شهادة لا ترد على جدارتها بالقيادة و «المفتاحية» الإقليمية، على قول سلسلة من المداحين آخرهم وزير خارجية تقدمي اشتراكي أوروبي. وعليه، فالسؤال الذي يكرره موظفو الدوائر السورية عن «مصلحة» سورية في الأعمال الإرهابية بالعراق، ويحسبون أنه سؤال مفحم والجواب عنه مستحيل، هذا السؤال لا يصدر إلا عن «سذاجة» أصحابه والملوحين به. ففي ضوء مدونات الحوادث اللبنانية والفلسطينية والعراقية والتركية، في الأربعين سنة الأخيرة، يتعاظم «النفوذ» السوري، على قول فاروق الشرع متفاخراً، طرداً مع انقسام البلدان والدول والمجتمعات على نفسها. وفي الأحوال هذه كلها، كانت المنظمات المسلحة «المقاومة» أداة سورية الى طعن الدول الشقيقة. * كاتب لبناني.