في أولى «محاضرات ريث» الأربع التي كُلّف غريسن بيري إلقاءها هذه السنة، قال الفنان الفائز بجائزة ترنر في 2003 إن معظم الفن المعاصر «هراء»، وإن العاملين في مجال الرسم والنحت يخاطبون اليوم الطبقات السفلى بالواقعية الخشنة لأنهم يخشون الطبقة المتوسّطة ذات الذوق الرفيع. ذكر بيري للحضور في «تيت مودرن» أن مافيا عالم الفن سمحت له بدخوله، لكن هذا الوسط يخافه أحياناً لأنه متوسط الذوق، ومع أن كل شيء يمكن اعتباره اليوم فناً إلا أنه ليس كذلك، ومعظمه «شنيع». عُرف بيري برسمه على جرار خزف كبيرة وارتدائه ملابس النساء علماً أنه زوج وأب. هجرت والدته أباه المهندس لتتزوّج بائع الحليب، وأوضح بيري أنه بدأ يرتدي ملابس الفتيات سرّاً ليجد مهرباً من عنف زوج أمّه. ورغم أنه دعا نفسه «كلير» عندها، لم تكن هذه شخصية أخرى وبقي كما هو ولكن في فستان. خضع بضعة أعوام للعلاج النفسي الذي يعترف بفضله في دفع فنّه إلى قمّته قبل مكافأته بترنر، وزوجته معالجة نفسيّة التقاها في درس الكتابة الإبداعية. لا يرتدي ملابس كلير حين يعمل في محترفه، ومواضيعه غالباً تتناول الإساءة والعنف والوحدة والصراع. ركّز على مشاهد الجنس الغريبة والمقلقة في بدايته تكريماً لفن الخزف الإغريقي الذي مزج صور الجمال الكلاسيكي والعربدة المتنوّعة. شكّل الجانب القصصي القاتم في فنّه قاسماً مشتركاً مع حركة «الفنّانون البريطانيّون الشباب» التي يحتقرها. ولئن نفر من الفن المفهومي بقي فنان أفكار وقصص، ورفع الدبّ - الدمية الذي يملكه إلى مستوى المِثال بحثاً عن نشوء الدين. من مصادر مشروعه أيضاً التراث الإنكليزي الذي يهجوه ويحييه في آن. قال إن البريطانيين يفتقدون مساهمتهم الرائعة في ثقافة العالم واحتفالهم بالبشرية في الوقت الذي يهجونها. يحب اقتباس قول الفنّان الأميركي الكوري نام جون بيك إن على الفنّان أن يعض دائماً اليد التي تطعمه ولكن ليس بشدّة. حين سُئل إذا كان يخشى أن يجذب فنّه مجموعة محدّدة أجاب أنه لا يرغب في مسايري الموضة بين جمهوره لأنهم كفيلون بوضعه خارجها. أسّس اللورد ريث، المدير العام الأول لهيئة «بي بي سي»، تقليد المحاضرات في 1948 وكانت أونغ سان سو تشي، المعارضة البورمية سابقاً، بين الذين كُلّفوا إلقاءها. اختار بيري أعمال داميين هرست ليصفها بالمبتذلة والمبهرجة. كان هرست أشهر أعضاء «الفنانون البريطانيون الشباب» الذين شجّعهم تشارلز ساتشي، أحد أبرز العاملين في الفن، ولفت فوراً ببقرته المنقوعة في الفورمالدهايد. برهن هرست أنه رجل أعمال داهية، وجمع ثروة تبلغ الآن 215 مليون جنيه استرليني، لكن هبوط مكانته حديثاً دفع الناقد جوليان سبولدينغ إلى نشر كتاب عنوانه «لماذا يتوجّب عليك بيع لوحات داميين هرست قبل فوات الأوان؟». في 2007 دفع متحف قطر أربعة عشر مليون جنيه استرليني ثمن «تهويدة ربيعية - خزانة الأدوية» التي تبقى عمله الأغلى ثمناً، وفي العام التالي تسابق الروس والسعوديون على 223 عمل له في مزاد سوذيبيز في لندن. زادت ثروته تلك الليلة 111 مليون جنيه استرليني جعلته أقوى الفنانين الأحياء، لكن ذلك تزامن مع انهيار شركة ليمان براذرز في اليوم نفسه وبدء الأزمة الاقتصادية التي طاولت الفن، وأعادت أسعار أعمال هرست إلى مستوى العام 2005. فقدت هذه ثلاثين في المئة من سعرها حين أعيد بيعها، وفي 2009 بيع الثلثان فقط من أصل 1700 قطعة في مزاد. سياسة السوق شركة الأبحاث «آرت تاكتيك» رأت أنه من السابق لأوانه الحديث عن نهاية هرست، وذكّرت بأن قيمة أعمال آندي وورهول هبطت في التسعينات ثم انتعشت ثانية. اعتبرت أن السوق سيعيد تقويم أعمال الفنان البريطاني ويضعه في مرتبة بيكاسو إذا قلّص إنتاجه البالغ حتى اليوم ثمانية آلاف عمل. وقارنت الرقم بتركة بيكاسو التي اقتصرت على خمسين ألف عمل علماً أنه توفي في عقده التاسع، وخمسة وتسعين ألفاً لوورهول المتوفّي في 1987 عن سبعة وخمسين عاماً. اتهّم بتكليف مساعديه إنتاج أكثر من ألف لوحة نقاط ملوّنة مملّة، وتساءل تقرير «آرت تاكتيك» ما إذا كان سيتمكّن من تحقيق أعمال لافتة كما فعل في التسعينات قائلاً إن عليه العثور على دور أبرز في المزادات وإلا راوح مكانه. في الوقت نفسه كشفت غاليري تيت بفرعيها (بريطانيا ومودرن) عن زيادة اقتربت من ثلاثة أرباع المليون في عدد زوّارها العام الماضي كان نصيب هرست منها نحو نصف مليون. ضمّ معرضه رأس بقرة متعفّناً وجمجمة من الماس قال إن سعرها بلغ خمسين ألف جنيه استرليني، وأكّد الإقبال عليه أنه لا يزال الفنان البريطاني الأكثر شعبيّة. في سعيها إلى مزيد من التفاعل مع روّادها بدأت «تيت مودرن» مشروعاً جديداً يَخُصّهم بغرفة وشاشة لمس تنقل رسومهم فوراً إلى شاشة قريبة من أعمال فنانين مشهورين مثل مارك روثكو امتدّ التفاعل مع المهتمّين بالفن إلى المرشّحين لجائزة ترنر التي سيُعلن الفائز بها في الثاني من كانون الأول (ديسمبر). يعرض ديفيد شريغلي دمية رجلٍ عارٍ ضخم، منتفخ الصدر، بارز الأذنين، ذي نظرة مقاتلة يغمض عينيه من حين إلى آخر ويبول في سطل أمامه. يمكن الراغبون الجلوس إلى طاولة ورسم الدمية وعرضها «للمشاركة في العمليّة الإبداعية». المرشّح الأوفر حظاً، تينو سيغال، دعا عمله «هذا تبادل» وكلّف فريقاً مناقشة الاقتصاد العالمي مع الزوّار مقابل جنيهين استرلينيين ُيدفعان لكل منهم. يرفض تسمية «عمله» فن الأداء لأن فريق «الشارحين» ليسوا مؤدّين بل أشخاص يهتمّون حقاً باقتصاد السوق. لور بروفوست أيضاً ترحّب بمشاركة الروّاد الذين يُدعون إلى حفلة شاي «ماد هاتر» المقتبسة عن «أليس في بلاد العجائب» إذا أتوا في الوقت المناسب. لكن عملها المرح لا يحاكي الحياة لأن الفناجين وإبريق الشاي ترشح، وتمزح بالتالي مع الزائر. الإفريقية المقيمة في لندن يادوم بوكيي ترسم أشخاصاً سوداً لا للاحتفال بكون المرء أسود بل لأن ذلك يبدو طبيعياً أكثر من رسمها البيض. كانت الفنانة المرحة بين الذين لبّوا دعوة شريغلي وحقّقت رسمين لدميته وعلّقتهما. بات الصدم في الفن مجرّد كليشيه، قال بيري. في 2010 فازت سوزان فيليبس بجائزة ترنر عن ثلاثة مكبّرات للصوت تبثّ أغنية إرلندية حزينة بصوتها، وفلسفت عملها بالحديث عن علاقة الصوت بالمكان. كل شيء ممكن في الفن، الديموقراطي بالتأكيد.