مضى أسبوع على انتهاك زعماء ديموقراطيين مزعومين مبادئ الديموقراطية. فرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان توسل شرطة مكافحة الشغب لطرد المتظاهرين السلميين من ساحة تقسيم. ووصف هؤلاء ب «بزمرة لصوص ومشردين». وصدر قانون مصري يقيّد عمل المنظمات غير الحكومية. وترى مجموعات المجتمع المدني المصرية أنه يرسي أسس الدولة البوليسية على يد الرئيس المنتخب «ديموقراطياً»، محمد مرسي. ونزل مئات الآلاف من البرازيليين إلى الشارع للاحتجاج «كل شيء تقريباًَ». ويجمع بين حوادث تركيا ومصر انحراف ديموقراطي يُعرف بالاستبداد المنتخب أو الانتخابي. كل من مرسي وأردوغان يتوجه الى «مناصريه» الذين لا يشكلون الغالبية المطلقة على أنهم «الشعب»، وهما يحكمان باسمه، ويعتبران معارضيهما أعداء وهامشيين من غير المواطنين، وأنهم منساقون وراء افكار اجنبية أو رعاة أجانب. وحال مرسي وأردوغان كحال عدد من الرؤساء في دول تمر في مرحلة انتقالية. ففي روسيا، أرسى فلاديمير بوتين نظاماً ديكتاتورياً متكئاً على قاعدته الانتخابية القومية. ومثله فعل هوغو تشافيز في فنزويلا قبل وفاته. واليوم، لم يعد أحد يحسِب ان النظام الروسي أو الفنزويلي ديموقراطي، في حين تهدد الاضطرابات في تركيا ومصر حراكاً بدا واعداً. لم يبلغ مرسي او اردوغان مبلغ بوتين او تشافيز في اطاحة الديموقراطية، على رغم ان مرسي شارف على ذلك في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي حين رفع قيد السلطة القضائية عن قراراته، وأمسك بمقاليد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية قبل ان يضطر الى التراجع في الشهر التالي. ولكن يبدو أن الرجلين (اردوغان ومرسي) على قناعة بأنهما يمثلان إرادة الشعب. ولا يخفى انهما، شأن بوتين والراحل تشافيز، لا يميزان بين «ارادة الشعب» وإرادة الواحد منهما. فجنون العظمة داء قد يصيب قادة الديموقراطيات اليافعة. ففيها يحسِب الحكّام والمعارضة أن المساومة تفريط بالمصلحة القومية - الوطنية. والداء هذا ألمّ بالولايات المتحدة في عقود جمهوريتها الطرية العود. فمنافسو جون آدامز (ثاني رؤساء أميركا) اتهموه بالسعي الى إحياء المَلكية. وحين بلغ ابنه، جون كوينسي آدامز، سدة الرئاسة، اتهمه ابرز منافسيه، اندرو جاكسون ونائب الرئيس جون سي. كالهون، ب «تخريب» الدستور وإرساء نظام ديكتاتوري. ورأى آدامز أن انتخاب غريمه جاكسون يوجه ضربة قاضية الى الاتحاد الأميركي. فمبدأ مشروعية الاختلاف في الرأي لا يُرسى بين ليلة وضحاها، ورسوخه هو ثمرة سيرورة طويلة. وقد يُحالف الحظ بعض الأمم فتحظى برئيس مثل نيلسون مانديلا أو جورج واشنطن، وتتلقى درساً عظيماً عن السلطة الديموقراطية. وحين تولد الديموقراطيات من رحم المساومات والاتفاقات بين الإصلاحيين والنخب الحاكمة، يُدرك الجميع الفائدة المرجوة من فن المساومة. وما حصل في أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين هو خير دليل، ولكن حين تنتزع السلطة في عمل ثوري، مثلما حصل في مصر ودول أخرى عربية، يحسِب الناس ان المنتصر يغنم كل شيء من غير حاجة الى مساومة أو مفاوضة المعارضة. ولكن من أين للقادة تعلم تمثيل الشعب كله وليس ناخبيهم فحسب؟ مثل هذا التعلم عسير، ولكن في وسع الناخبين تلقينهم هذا الدرس. فعلى سبيل المثل، رص الصرب صفوفهم عام 2000 لإسقاط سلوبودان ميلوسوفيتش، الرئيس المستبد والشعبوي الذي حاز غالبية سياسية عبر النفخ في التطرف القومي. لكن مثل هذا الدرس يقتضي رص صفوف المعارضة وسعيها الى بلوغ هدف عام. وهذه ليست حال المعارضة التركية أي «حزب الشعب» الأتاتوركي الميل أو المعارضة المصرية المتذررة والمنقسمة انقساماً بالغاً في مواجهة حكم «الإخوان». والمشكلة ليست من بنات الحزب الحاكم فحسب، فالثقافة السياسية في الديموقراطيات الطرية العود غالباً ما تشرع الأبواب امام الاستبداد الانتخابي، وهي عامل يعتد به. ففي كتابه «أنماط الديموقراطية»، يذهب الباحث في السياسة أرندت ليبهارت، الى ان الحكومات الديموقراطية تتوزع على نموذجين: النموذج الغالبي على غرار النموذج البريطاني، المترافق مع هيمنة حزب واحد على مجلس العموم ومقاليد القرار؛ أو نموذج توافقي يدعو الى الحكم عبر الائتلافات. ولاحظ ليبهارت أنه في المجتمعات المتجانسة يشعر المواطنون كلهم بأن النظام الأكثري يمثلهم. لكن النظام هذا في مجتمع منقسم طبقياً أو يقوضه انقسام على الهوية، يؤدي الى ديكتاتورية الغالبية ونزاعات أهلية. ويدعو الى الاحتكام الى حكم انتخابي يراعي توازنات الكتل والأعداد في تشكيل حكومة ائتلافية ويضمن التمثيل النسبي في نظام توافقي غير مركزي يستند الى مجلسين. ويزعم ليبهارت ان النموذج التوافقي يُبرز المشروعية الديموقراطية من غير التفريط بها. ووراء تباين الرد في تركيا والبرازيل- وكل منهما ديموقراطية ديناميكية «يافعة»- على التظاهرات، تباين نظام الحكم. فأردوغان يخوّن منافسيه ويكيل لهم التهم، في وقت احتفت الرئيسة البرازيلية، ديلما روسيف، بقرع المتظاهرين ناقوس الخطر وتسليطهم الضوء على الشوائب الاقتصادية والاجتماعية. وتواجه البرازيل شأن تركيا أزمة، لكنها أزمة من نوع آخر. ففي تركيا أزمة تمثيل، وأردوغان يحكم بغالبية برلمانية. فالقانون التركي يُقصي من البرلمان الأحزاب التي لم تحز أكثر من 10 في المئة من الأصوات. ويرجح النظام التركي أسوأ نوازع أردوغان الى الاستبداد. أما في البرازيل فهناك حكم ائتلافي يضطر الرئيس(ة) الى المساومة السياسية والتفاوض مع المعارضة. ويساهم في ترسيخ الديموقراطية التزام الحكمة في الحكم والعادات الحسنة دستورياً وثقافياً. لكن انزلاق الديموقراطيات إلى الاستبداد والديكتاتورية هو سيف مسلط عليها. وليس مستبعداً ان يحكم الجيش قبضته على السلطة في مصر، إثر استفحال النزاع بين مرسي والمعارضة والقضاء، وانزلاقه الى الفوضى والعنف والشلل الاقتصادي. واستبداد كل طرف يسوغ استبداد الأطراف الأخرى، فتُجهض الديموقراطية الطرية العود وتعود مصر الى المربع الأول، أي الى حالها قبل التغيير الديموقراطي، مثلما حصل في باكستان أكثر من مرة. لكن حظوظ مثل هذا السيناريو ضعيفة في تركيا ومصر. وشارف زمن رضوخ المواطنين للاستبداد، على الانتهاء. فالتظاهرات الحاشدة، في تركيا أو مصر أو البرازيل أو غيرها من دول العالم، هي مرآة رفضهم جعل مواطنيتهم الديموقراطية مقتصرة على الاقتراع. وتبدو الطبقات الحاكمة في هذه الدول في حيرة من أمرها، لا تعرف السبيل الى النزول على مطالب الناس. «كل أربعة اعوام نجري انتخابات وتحسم الأمة خياراتها»، خاطب أردوغان شعبه واعظاً وهو يحسب انه يلقنه درساً في الديموقراطية، لكن قوله هذا غير مصيب. فالاستبداد الانتخابي لن يذلل مشكلات تركيا ولن يلقى التأييد. فشطر لا يستهان به من السكان لفظ هذا النوع من التمثيل بين الحكام والشعب. ولا شك في ان ايام ديكتاتورية الغالبية ولّت في تركيا، وقد تكتب لها الحياة في روسيا، لكن أيامها في فنزويلا صارت معدودة. وتجاهل الأنظمة الديموقراطية مطالب الناس سيفاقم الاحتجاجات، فيتعاظم القمع أو شظف الرد الحكومي فيسري شعور اليأس وغياب الغايات المشتركة والجامعة لدى أمم مثل البرازيل وتركيا، فتتفاقم الضغائن ويتزايد الانقسام. وفي العالم العربي، يبدو ان تونس تفلح شيئاً فشيئاً في مد الجسور بين المجموعات لإرساء نظام جديد، في حين تتجه مصر وليبيا الى أشكال من الديموقراطية الفاشلة. * عن موقع «فورين بوليسي» الأميركية، 21/6/2013، اعداد منال نحاس