سكب المختبران النوويان السويسري والروسي الكثير من الحبر في وصف وتحديد العناصر التي وجدت في رفات الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لكنهما أخفقا في تحديد الأسباب المباشرة للوفاة، ما يحول دون استكمال الملف وحمله إلى أي هيئة قضائية في العالم. وأضفى المختبران غموضاً إضافياً على أسباب الوفاة عندما خلص الأول (السويسري) إلى أن نتائج الفحص «تدعم بشكل معتدل» نظرية أن تكون الوفاة نتيجة مادة «البولونيوم المشع 210»، بينما خلص الثاني (الروسي) إلى أن مستوى هذه المادة في رفات عرفات «لا تعطي دلائل كافية» على أنها سبب الوفاة. ولجأت السلطة الفلسطينية إلى المختبرين اللذين يعدان من أهم المختبرات النووية في العالم لفحص رفات عرفات بعد أن بثت قناة «الجزيرة» القطرية العام الماضي تحقيقاً أظهر وجود مادة «البولونيوم المشع 210» في مقتنيات شخصية للرئيس الراحل. وقدم خبراء من المختبرين السويسري والروسي ومن مختبر ثالث فرنسي، إلى رام الله في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي، وحصل ممثلو كل منهم على 20 عينة من رفات الرئيس الراحل، ونقلوها بالحقائب الديبلوماسية إلى بلادهم، علماً أن الوفد الفرنسي جاء بشكل منفصل للحصول على عينات من رفات الراحل إثر قيام أرملة الرئيس الراحل برفع قضية أمام القضاء الفرنسي في ضوء نتائج تحقيق «الجزيرة». وأبلغت المختبرات الثلاثة السلطة الفلسطينية، في حينه، أن الفحص يستغرق ستة أشهر، لكنها بعد انتهاء هذه المدة، طلبت المزيد من الوقت. وزاد المختبر الروسي بطلب عينات أخرى من ملابس الرئيس ومقتنياته. لكن نتائج الفحوص التي استغرقت نحو عام، لم تكن حاسمة، ما ترك ملف موت عرفات مفتوحاً، وجعله لغزاً يتطلب حله ما يشبه المعجزة. وأعلن أعضاء لجنة التحقيق في وفاة الرئيس الراحل أن نتائج المختبرين الروسي والسويسري قربتهم من الحقيقة، متعهدين مواصلة العمل حتى الوصول إلى السبب المباشر والى الأداة. لكن كثيراً من المراقبين يرى أن فرصة اللجنة في الوصول إلى ذلك تبدو شبه مستحيلة بعد استنفاد الفرصة الأخيرة المتمثلة في فتح قبر الرئيس وإخراج رفاته وفحصه. وكانت السلطة الفلسطينية شكلت قبل ثلاث سنوات لجنة للتحقيق في وفاة الرئيس الراحل ضمت عدداً من كبار قادة الأمن المتقاعدين والأطباء. وترأس لجنة التحقيق رئيس جهاز المخابرات العامة السابق اللواء توفيق الطيراوي، فيما ترأس الطبيب الخاص للرئيس الراحل مدير مستشفى الأردن الدكتور عبد الله بشير اللجنة الطبية. وقال الطيراوي إن لجنة التحقيق أجرت مقابلات مع مئات الأشخاص في الوطن والخارج في السنوات الثلاث الماضية. ويرى الطيراوي أن نتائج التحقيق التي أظهرت وجود مستوى مرتفع من مادة «البولونيوم المشع 210» في رفات عرفات «ضيّقت دائرة البحث» لدى اللجنة، مشيراً إلى أن التحقيق سينصب في المرحلة المقبلة على أولئك الذين كانوا على صلة مباشرة مع الرئيس وطعامه وشرابه ودوائه ونومه. لكن يُعتقد أن اللجنة ستواجه مشكلة كبيره في ذلك، لأن الرئيس الراحل كان منفتحاً على كثير من الناس الذين كان يستقبلهم ويحتضنهم ويقبلهم، ويتقبل منهم أدوية أعشاب وهدايا بسيطة مثل علب الشوكولاتة. وقالت سهى عرفات، أرملة الرئيس الراحل، في حديث هاتفي مع «الحياة»، إن الخبراء في المختبر السويسري أبلغوها ان مادة «البولونيوم» عبارة عن ذرة صغيرة بحجم حبة الملح، وأنها توضع في الغذاء والدواء والشراب، وان آثارها تظهر بعد شهر. وتراهن السيدة عرفات على نتائج الفحص الجاري في المختبر الفرنسي، وقالت: «لدي قضية منظورة أمام القضاء الفرنسي، وأنا أثق بالقضاء وبالعدالة الفرنسية». لكنها أضافت أنه في حال تأخر القضاء الفرنسي في النظر في القضية، فإنها تفكر في اللجوء إلى هيئات أخرى. الثقة بفرنسا غير أن كثيراً من الفلسطينيين لا يثق بموقف فرنسا من التحقيق، خصوصا أنها أتلفت جميع عينات الفحص التي حصلت عليها من عرفات أثناء علاجه في مستشفى بيرسي العسكري. ويقول عدد من المسؤولين الفلسطينيين في اللقاءات الخاصة، إن موقف فرنسا غير مبرر، خصوصا أن الأنظمة الطبية تحتم إبقاء مثل هذه العينات في المستشفى لمدة عشر سنوات. ويرى هؤلاء أن فرنسا تعاملت مع القضية بصورة سياسية وليس بصورة طبية بحتة، وأنها ربما أخفت بعض المعلومات تجنباً لتسببها بحدوث أزمة سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في وقت تعمل فيه هذه الدولة وغيرها من الدول الغربية، على محاولة التقريب بين الجانبين. ووجهت لجنة التحقيق الفلسطينية طلبات عدة إلى فرنسا، منها طلب إلى مستشفى بيرسي العسكري للحصول على نتائج جميع الفحوص التي أجريت للرئيس الراحل أثناء تلقيه العلاج فيه، لكنها لم تتلق أي رد. كما طلبت اللجنة من السلطات الفرنسية تزويدها نتائج فحص العينات التي حصلت عليها من رفات الرئيس الراحل، ولم تتلق أي رد. ويعزو وزير العدل عضو لجنة التحقيق علي مهنا الموقف الفرنسي إلى وجود قضية قضائية للسيدة سهى عرفات في هذا الشأن منظورة أمام القضاء الفرنسي. وقال: «الفرنسيون يحققون من أجل القضية المنظورة أمام القضاء الفرنسي، وهم ردوا علينا قائلين إننا لن نسلمكم أي تقارير إلا في إطار إنابة قضائية». ووفق الطيراوي، فإن نتائج التقريرين الروسي والسويسري «ليست نهاية المطاف» في وفاة عرفات، إذ إن «هذه النتائج تؤكد ما توصل إليه التحقيق الفلسطيني المستمر، وهو أن ابو عمار لم يمت بصورة طبيعية، أو نتيجة تقدم السن أو المرض». وأضاف: «التحقيق سيتواصل، وهذه التقارير وفرت لنا دعائم علمية، وقربتنا من الوصول إلى الحقيقة، لكنها ليست نهاية المطاف». والسؤال الكبير الذي يلف قضية وفاة عرفات اليوم بعد ظهور نتائج فحص رفاته هو: إذا كانت المختبرات النووية الأهم في العالم أخفقت في إيجاد السبب المباشر والأكيد لوفاته، فمن يمكنه ذلك؟