بينما ينشغل العاملون في مجال السينما بما هو جديد في تقنيات صناعتها، مطوّرين بذلك من جودة الصورة، والمحتوي، ومشتملات العمل السينمائي من صوت وموسيقى وغرافيك، ينشغل النقاد على الجانب الآخر بالتأطير للسينما تحليلاً وتنظيراً سواء كانت تلك الأطروحات النظرية النقدية منطلقة من تحليل عناصر بعينها، أو أعمالاً سينمائية في مجملها. في هذا الخضم يصدر عن المنظمة العربية للترجمة دراسة فلسفية عن السينما للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، أعد دراسته هذه قبل نحو عشرين عاماً وترجمها جمال شحيد أستاذ النقد الأدبي، والحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون. تصدر هذه الدراسة في جزأين، الأول فقط هو الموجود بين يدي القارئ العربي، حيث سيصدر الجزء الثاني في غضون أسابيع قليلة. يوضح الغلاف الخلفي للكتاب أن المحتوى لا يقدم حالة تأريخية عن السينما وإنما يقدم تبويباً للصور وإشارات ومحاولة لتصنيفها، فدولوز يقدم تحليلاً لعلاقة السينما بالحركة في الجزء الأول من الدراسة، ولعلاقة السينما بالزمن في الجزء الثاني، وقد اعتبر النقاد السينمائيون دراسة دولوز من أهم ما كُتب عن السينما حتى الآن. يقع الجزء الأول من الدراسة في 415 صفحة من القطع المتوسط، حيث يقدم شحيد لترجمته بمقدمة تعريفية بالفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، وينهي الدراسة بثبت للمصطلحات، وكشاف بالكلمات، وهي أمور مهمة للباحثين في الفن السابع. الكتاب الذي يقع في اثني عشر فصلاً اعتنى بالصورة في شكل تفصيلي فتناول كل مؤثر في الصورة بدءاً من الإطار واللقطة والتأطير، ومروراً بالإدراك والانفعال والفعل وغيرها من المؤثرات والحركة التي قد تغير في شكل الصورة. ويوضح دولوز عبر أحد فصول دراسته «أن التأثير العاطفي هو الجوهر، أي أنه القوة والكيفية، وهو موضوع تعبير: ذلك أنه لا يوجد مستقلاً عن شيء يعبر عنه مع أنه مختلف عنه تماماً» ويورد دولوز أمثلة توضيحية لشروحاته. فهو حين يتحدث عن التأثير العاطفي واللقطات المقربة يستشهد بفيلم «الخط العام» لإيزنشتاين حيث يقول: «لماذا لا تقوى الأشياء عن التعبير؟ تمارس الأشياء تأثيرات. السكين «الحاد» و «القاطع» و «النافذ» لجاك باقر البطون يمارس تأثيراً، شأنه شأن الرعب الذي يستحوذ على قسمته، وشأن الاستسلام الذي يهيمن أخيراً على كل وجهة». وحول فكرة الحركة في السينما يوضح دولوز أنها «تقتصر في ذاتها على سلسلة من التذبذبات السريعة للغاية» و «ليست في الواقع إلا حركة الحركات». ودولوز في دراسته استعرض آراء آخرين كبرغسون الذي كان يظن أن السينما عاجزة عن الحركة، لأنه اعتبر ما كان يحدث داخل الجهاز فقط، أما رينوار فكان يظهر عنده دوماً الحديث عن مفهوم الحركة، ويوضح دولوز أن ذلك يتجلي عندما تغادر الكاميرا شخصاً وتدير ظهرها له، ثم تجده من جديد عقب هذه الحركة الخاصة. للقطة المقربة مكان وتحليل في دراسة دولوز الذي يجد أن اللقطة المقربة تنتزع الوجه أو ما يعادله من جميع الحيثيات الزمكانية، تستطيع أن تحمل معها زماناً ومكاناً خاصين بها، وتحمل جزءاً من نظرة وسماء ومنظر طبيعي وعمق. لدراسة دولوز صعوبة في التعاطي معها، فعلى رغم أنه يتناول كل مقومات ومكونات الحركة، وأن الدراسة غنية بالأمثلة من الأفلام التي تمثل نماذج شرح ممتازة للتوضيح، إلا أن مثل هذه الدراسات لا يتم التعاطي معها من منطلق القراءة الممتعة الذي تشغل أوقات الفراغ ولكنها بمثابة مادة دراسية تحتاج من قارئها أن يعتمد على عناصر أخرى للنيل من محتوى الكتاب، حيث يحتاج القارئ أن يُراجع بعض الأفلام الوارد الحديث عنها كنماذج توضح الفكرة مثل أفلام «كيفما اتفق يا بلتزار» و «المال» أو فيلم «أغاثا والقراءات التي لا حدود لها» وفيلم «طول الموجة» الحقيقة أن هناك عشرات الأفلام التي يوردها دولوز شرحاً لفكرته، مستعيناً بشروحات وآراء لفلاسفة آخرين أهمهم برغسون الذي يستشهد بآرائه في أكثر من موضع. فعل المشاهدة ليس الوحيد للإلمام بدراسة دولوز، بل ربما يلجأ القارئ لتدوين هوامشه، ومقولات قد تكون مأثورات عند الحديث عن سينما الصورة - الحركة. الدراسة التي تقع في جزأين اختص الجزء الأول فيها بالحركة، هي الأهم كما صنفها نقاد الفن السابع ذلك لأنها تعتني في شكل كبير بتفاصيل الحركة، حتى تلك التي لا نلحظها، متخذاً من اللقطة وحركة الكاميرا محوراً بالغ الأهمية في شروحاته، حيث يقدم دولوز اكتشافات عديدة عن تكوين اللقطة، ربما لا يلتفت له الكثيرون عند قراءة المشهد. يعتني دولوز بالممثل شارلي شابلن في أحد فصول دراسته، متسائلاً لماذا تفرّد شابلن ولماذا أعطاه الجميع مكانة لا تضاهى في الأهزولة الساخرة. وبينما دولوز ينقب في أماكن أخرى غير المعتادة يفعل الأمر نفسه مع شابلن فيقول عنه: «شابلن عرف كيف يختار الحركات القريبة والمواقف المتباعدة التي تلائمها، بحيث خلق في ظل هذه العلاقة بينها انفعالاً شديداً إلى جانب الضحك، وفاقم الضحك بواسطة هذا الانفعال. إذا كان ثمة فرق بسيط في الفعل يؤدي إلى موقفين متباعدين أو متعارضين ويجعلهما يتناوبان». إن دولوز يُحيل عقولنا إلى جوانب أخرى في التعرف الى دوافع المشهد، فيجعل من الحركة بطلاً رئيسياً حتى في وضع الثبات. الناقد السينمائي العربي ستثري هذه الترجمة معارفه بكل تأكيد، حيث تمثل إضافة نوعية في الوعي باللقطة السينمائية، كما يمكن أن تصنع إضافة لكُتاب السينما في كتابة سيناريوات ستكون مختلفة وتصنع فارقاً. هذه الدراسة تمثل إضافة في المكتبة العربية التي تعاني ضعفاً في الدراسات السينمائية، فالتأطير السينمائي لا يماثل حجم الإنتاج سواء الروائي أو الوثائقي.