أياً تكن التركيبة الجديدة للحكومة التونسية التي ستخلف تلك التي أنتجتها «الترويكا» الحاكمة بقيادة حركة النهضة الإسلامية، فالتحديات الاقتصادية والمالية والاجتماعية تبقى ضخمة ومتعددة. إذ يكفي إعداد جدول مقارن لمؤشرات الاقتصاد الكلي، وحريات التعبير ووسائل الإعلام والسياسات، لاكتشاف صعوبة الوضع القائم والالتزامات والاستحقاقات القصيرة والمتوسطة الأمد. لقد اعتقد التونسيون بعدما نجحوا في إسقاط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، أن مشكلاتهم السياسية وغياب الديموقراطية قد زالت، وبأن عهداً جديداً قد بدأ، خصوصاً بعد تنظيم أول انتخاباتٍ تشريعية حرة وشفافة منذ الاستقلال. كما اعتقد هؤلاء بعد أسابيع من الانتخابات، بأن العالم الحر ومواقف الدول المانحة التي وعدت بمساعدة الاقتصاد الوطني على تغطية الخسائر التي نجمت عن الأحداث التي رافقت الثورة، ستخرج البلاد من النفق المظلم، وبالتالي تعيد تحريك عجلة القطاعات الأساسية. ولقد ذهبت الآمال بالمواطنين التونسيين إلى اعتبار أن التغيير سيحمل معه، إضافة إلى التعددية السياسية وحقوق الإنسان والحريات بكل أشكالها، تحسين مستوى المعيشة وخفض معدل البطالة وهما أولويتان، ووضع حد للقمع الذي كانت تقوم به الشرطة السياسية للنظام السابق. اليوم، وبعد نحو سنتين على تغيير النظام السابق، اكتشف التونسيون أنهم عادوا للمربع الأول، كما أنهم بحاجة لثورة ثانية لتأمين تحول فعلي منشود، يخرج البلاد من الأزمة التي وصلت إليها سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً. فالإحصاءات المقارنة بين عامي 2011 و 2013، والصادرة بخاصة من قبل المؤسسات المالية العالمية في المجال الاقتصادي والاجتماعي، تدل على التدهور الحاصل والدائم. فهذه المؤسسات تنقل علناً التلاعب بالأرقام من قبل الحكومتين المتعاقبتين للتخفيف من تراجع غالبية مؤشرات المكونات الأساسية للاقتصاد التونسي، مثل السياحة والصادرات، والاستثمارات الخارجية المباشرة وغيرها، التي فقدت الثقة في السلطة الحاكمة، وباتت غير مستعدة لتقديم أي دعم على شكل مساعدات وقروض للاقتصاد التونسي طالما بقيت الترويكا الحالية في السلطة. ولم تتوقف قط مؤشرات التراجع على كل المستويات، في طليعتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية. وتلعب الحكومة لعبة الهروب إلى الأمام بهدف استباق تزايد نقمة الشارع التونسي، خصوصاً محاولة تجنب تحرك الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يتجاوز عدد منتسبيه 700 ألف شخص، والذي يمكن أن يطيح بأي سلطة ويغير المعادلة. من هنا، يمكن تفسير محاولات «حركة النهضة الإسلامية» التي تقود التحالف الحاكم، لفتح حوارات معها ولاحقاً مع المعارضة لإيجاد مخرج للأزمة التي تتخوف من تطورها لتتحول ثورة جديدة. فمن أبرز الدلائل على الأخطار التي تهدد اقتصاد تونس وماليتها، ما تضمنته مداخلة حاكم مصرف تونس المركزي، الشاذلي العياري، في مطلع الشهر الجاري، خلال الجلسة الافتتاحية للجمعية الوطنية التأسيسية (البرلمان الموقت). فالخطاب الذي ألقاه هذا الاقتصادي الحيادي، أكد أن الحكومة غير قادرة على تحقيق معدل نمو نسبته 3,6 في المئة بنهاية العام الحالي كما وعدت، مذكراً بأن الحكومة نفسها قد راجعت تقديراتها مرتين خلال السنة باتجاه الخفض لمعدل النمو. ورأى العياري أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف النمو المعلن هو الوصول إلى تحقيق 6 في المئة في الأشهر الثلاثة المقبلة، ما يعتبر مستحيلاً في ظل الواقع الاقتصادي والمالي المتردي. فأخطر ما ورد في مداخلة المسؤول الأول عن مؤسسة النقد في تونس، هو الغياب التام للرؤية على صعيد الموازنة طوال السنوات الخمس المقبلة. فعلى صعيد عجز الموازنة الذي وصل إلى 7,4 في المئة، وفق ما أعلنه وزير المال الياس فخفاخ، على سبيل المقارنة، أن الاقتصاد التونسي بقي أكثر من عشرين سنة محافظاً على معدل نمو اقتصادي منتظم حول 6 في المئة، في حين كان العجز في الموازنة عشية 2012 بحدود 5.7 في المئة. وأكد الحاكم السابق لمصرف تونس المركزي مصطفى كامل النايلي، الخبير السابق لدى البنك الدولي والذي استمرت مهامه بعد قيام الثورة، ودق ناقوس الخطر منذ بداية حكم «الترويكا» وتدخل حركة النهضة في شؤون السلطات النقدية، أن الحكومة الجديدة ستواجه أخطاراً صعبة وجدية، اقتصادياً ومالياً، إذا لم تتمكن من اعتماد سياساتٍ جديدة تعيد الثقة بالبلاد أولاً، وباقتصادها لاحقاً. فالحكومة الجديدة، في حال تشكيلها، أكانت حكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط، ستواجه من دون شك استحقاقات صعبة جداً على رغم دعم عدد من المؤسسات المالية العالمية وصناديق التنمية العربية والدول المانحة. فعليها، في الدرجة الأولى، مواجهة أخطار متعددة من بينها انهيار معدل النمو، وزيادة التضخم، وتعاظم نسبة البطالة، خصوصاً بالنسبة لحاملي الشهادات العليا، والعجز في ميزان المدفوعات. وتؤكد الإحصاءات المقارنة، أن النفقات العامة ناهزت 61 في المئة خلال السنوات الثلاث الماضية، أي ما يوازي تسعة بلايين دينار. وتفيد التقارير بأن أكثر من ثلثي هذه المبالغ خُصص لزيادة الرواتب ودعم بعض المواد الأساسية، بهدف استعادة ثقة المواطنين. لكنها في المقابل شكلت أعباء قاسية على الدولة، سيكون على الحكومة خفضها. مدير مؤسسة «ساغا» للاستشارات الاقتصادية - باريس