لا توجد حتى الآن أية دراسات تنظيرية في منابرنا يُعتد بها في حقل الإنسانيات الرقمية لحرث أرضية إنتاج ذلك النص التفاعلي وإرساء تقاليده، حتى التجارب الكتابية تبدو في الغالب عبثية وغير واعية بمتطلباته، إضافة إلى عدم توفر أي جهد نقدي يُذكر في هذا الصدد. كما أن الجامعات في السعودية لم تأخذ مسألة إنتاج الأدب الإلكتروني على مجمل الجد كما فعلت جامعات عربية أخرى أقرت تدريس مهارات الأدب التفاعلي، ذلك الأدب المعني بتخلق النصوص «التكنو-أدبية» المؤسسة على تطبيق التقنيات الرقمية من الصوت والكلمة والصورة لتشكيل تجربة أدبية تفاعلية. وهنا يمكن التوقف عند مفارقة أخرى هي بمثابة الدليل على أن التعامل مع التقنية في السعودية ليس سوى صورة من صور الاستهلاك، ولا يعني إتقان مهارات وأخلاقيات السلوك الاتصالي، حيث يحقق المعرض الدولي للكتاب في الرياض أرقاماً فلكية على مستوى المبيعات وعدد الزائرين الذي يتجاوز المليونين. فيما يدل على أن المسافة بين الورقي والإلكتروني لم تتقلص بعد، وأن الحديث عن موت الكتاب الورقي في السعودية ليس أكثر من قضية مستوردة للتداول الإعلامي للاستهلاك الثقافي والإعلامي. بسرعة خاطفة تحول «تويتر» من مكان لتجميع الناس والتأليف فيما بينهم إلى محل للفرقة والكراهية والتناحر، على عكس ما كانت تفترضه وتبشر به يوتوبيا قرية مارشال ماكلوهن الكونية في الواقع الافتراضي. والسبب ببساطة أن المجتمع في السعودية - ممثلاً بمثقفيه من منتجي النصوص والمعرفة على حدٍ سواء - المندفع نحو المعلوماتية والتقنية الممثلة هنا ب«تويتر» كما كانت تتمثل في المنتديات وغرف الشات هو مجتمع لا عقلاني أصلاً، إذ لم يعد السؤال عن الكيفية التي تأسست بموجبها تلك البنية المتخلفة في التعاطي مع ثنائية الثقافة والاتصال، بل في الخطر الممكن توقعه من تحوّل المغردين لقوة فاعلة ومؤثرة لتعطيل مفاعيل الثقافة والاتصال بعد أن تقولبوا في بنى مزمنة وصاروا مضخة لإنتاج أسوأ صور ومفاهيم التخلف. إن العلاقة بين الثقافة والتقنية ليست محل شك ولا تنحصر الصلة بين الحقلين في اعتماد الثقافة على تقنيات الاتصال لضمان الانتشار فقط، بل يتجاوز ذلك التلازم الرؤية النفعية التقليدية إلى آليات تصريف الخطاب لكل منهما. وهو ما ينبغي للمثقف في السعودية أن يستوعبه لكسر طوق العزلة والخروج من وهم الخصوصية، أي إعادة صياغة البرادايم التقليدي الذي طالما حُبس فيه. فانفجار عصر الفضائيات والأقمار الصناعية والشبكة العنكبوتية يوسع فضاء حراك الذات ويفتح هامش إنتاج النص، ليدفع بالخصوصية الثقافية داخل متاهات الثقافة الإنسانية الشمولية، أي التعاطي الواعي والمنفتح مع التكنولوجيات الثقافية المبنية على شمولية الاتصال وخصوصية الثقافات المحلية، المؤسسة على آليات التأثير والتأثر والتعامل الحر مع تقاطعات التقني والثقافي من دون أية حساسية تجاه المرجعية الثقافية بكل معانيها الدينية والاجتماعية والوطنية. إن انتقال جوهر النشاط الإنساني إلى عوالم الميديا وذوبانها فيه يستلزم حداثة الإنسان القادر على التعاطي مع مهبات اللحظة الاتصالية وأدواتها، أي أن يلازم بنيوياً بين نصه والتقنيات التي باتت جزءاً من يومياته. وعندما قال ستيف جوبز، الذي يحظى بمكانة عند المغردين في السعودية، إن الديمقراطية هي أن يمتلك كل فرد حاسوبه الشخصي لم يكن مبالغاً في إبداء وجهة نظره المستندة على سطوة التقنية فهو يتحدث من منطلق كون التقنية التوأم المادي لليبرالية، وهو ما يعني أن النص الأدبي في السعودية، المحمول تكنولوجياً، لا يمتلك تلك الروح الليبرالية ولا جذور التأصيل الديمقراطي بقدر ما يتطفل على المكتسب الإنساني، ليحيل «تويتر» وغيره من المواقع التواصلية إلى نمط لهوي، أي كمحل للتنفيس والتسلية وليس كمعمل لإنتاج النص. التقنية ليست مسارات لتصريف الفائض الكلامي من خلال ممارسة خفة النظم الشفهي. والاستهلاك المفرط لها لا يعني الوعي بمتطلبات الفضاء السيبراني. فأن تكون حياً، كما يؤكد فاينر، يعني أن تشارك في تيار مستمر من التأثيرات الآتية من العالم الخارجي ومن الأفعال المؤثرة في هذا العالم. كما أن امتلاك وعي كامل بالأحداث في العالم هو مشاركة في التطور الثابت للمعرفة ولتبادلها في شكل حر، وهذا يعني بروز ذلك الكائن «بلا جوانية»، الخاضع لمؤثرات فضاء «تويتر» وما يدور فيه من قضايا ملحة ومتسارعة. الإنسان اللحظي الذي ينتج النص الآن في السعودية ليحضر به في الفضاءات الاجتماعية لا يكتب جوانيته، وهو متخفف بالفعل من مكانه، ولا يمثل إحساسه الحقيقي، لأنه مصاب بعدوى المؤثرات الخارجية أو ما يُسمى في علم الاجتماع بمصطلح «أثر الاستعراض» الذي يعنى تقليد الآخر والاقتداء به في المظاهر الاستهلاكية تحديداً، حتى لغته لا تختمر في مختبر وعيه بقدر ما تنفلت إلى خارجه بأسرع وقت ممكن لتُبتلع في متاهات سيبرانية. وهذا هو ما يهدد آليات إنتاج النص في شكل مباشر، وفي الآن نفسه يؤسس لنصوصية جديدة منبثقة من وعي اللحظة الاتصالية. كما أن الاستخدام المفرط للتقنية بكل صورها وتمثُّلاتها المادية واللامادية يرفع من منسوب الشحن الاجتماعي في مقابل تأخر الوعي الثقافي بتلك العلاقة المطردة، وهذا هو مصدر الاختلال فعلاقات الإنتاج الاجتماعية المتخلفة هي المسؤولة عن بروز وتصعيد الإنسان المازوخي السادي الذي يتقنّع بالقيم فيما هو يتلذذ بتعذيب نفسه وإيذاء الآخرين. وذلك من خلال التقنية التي تتسلل في شكل انهماري في المسارات والخطابات الاجتماعية التي تقوم بدورها بنشر قيمة الاتصال وقيمه المركزية، فيما تبدو النصوص الأدبية عاجزة عن اللحاق بقيم الحداثة الاتصالية وإقامة الصلة الواعية معها. من الوجهة الأدبية، نحن في مكان يسمى خطأ آيدلوجي كما يقول هاني الزعبي في كتابه «الذين يحضرون غيابهم» وهي حال جديرة بالتأمل من منظور علم اجتماع التخلف، فنحن من وجهة نظره «نشعر بالانحطاط والتخاذل أمام منجزات الآخر التي تشتهيها ذواتنا وهي غير قادرة على صناعتها أو الحصول عليها، حتى إذا ما تم لنا إشباع تلك الشهوات عمقنا تخلفنا وازدادت تبعيتنا الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية». وبمنتهى الشفافية والجرأة يستكمل التشخيص «هناك أناس منا أُخرجوا من مناخ أو بنية علاقاتهم المادية والفكرية، ووضعوا أو زُج بهم في أجواء أو بُنى علاقات اجتماعية غربية وغريبة حتى تشبعوا بها حتى النخاع». وعلينا إذا أردنا أن ننتج نصاً أو أدباً جديراً تحت مظلة التقنية وسطوتها أن نعيد بناء بنيتنا العقلية على شاكلة البني الاجتماعية التي زُج بنا فيها لننجو بذواتنا من الزيف. * كاتب سعودي.