هل مَلّ صانعو السياسة الأميركية من أبطال السياسة العاطفية العربية؟ أو أن ثورات الربيع العربي التي أحدثت زلزالاً في عقول الشعوب العربية كانت القشة التي قصمت ظهر بعير الأمل، وبعدها اكتشف قادة دهاليز السياسة الأميركية أن طبيعة العقلية الجمعية للعرب تكاد تكون متشابهة ومنسجمة الميول العاطفية إلا في السياسة، وبالتالي لم يعد منسوبو الجامعة العربية يتمتعون بالجاذبية للطقوس السياسية الأميركية؟ «اللهم أشغلهم في أنفسهم»، دعوة تردَّدَتْ ولا تزال على منابر الخُطب والصلوات، كانت ضد الدّب الأحمر السوفياتي، ثم انفردت بها الولاياتالمتحدة الأميركية لأكثر من نصف قرن ولا تزال، وحالياً فالأمة الأميركية، حكومة وشعباً، تواجه ضائقة مالية تكاد تعصف بالاقتصاد الأميركي، العلم عند الله إذا كانت بسبب دعوة المظلومين على الظالمين، لكن الله جلّت قدرته جعل لكل شيء سبباً وأتبع سبباً. ليس الهدف من هذه المقالة الإغراق في الشرح أو اللّجج والجدال في معاني السياسة وكيفية ضبط مفردات المصالح والمؤامرات، وطبيعة التغيير والمتغيرات الكونية، لكنّي أستطيع أن أقول: إن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة 2009 كان آخر الوعود الأميركية الكذوبة، أليس هو من قال في خطابه الشهير: «إن العلاقة بين أميركا وإسرائيل قوية، ولا يمن قطع الأواصر معها أبداً، ووصف حال الفلسطينين بأنه لا يطاق، وأن تطلعاتهم لبناء دولتهم الفلسطينية شرعية تماماً كشرعية طموح إسرائيل في وطن يهودي»، صفّق العرب والمسلمون وهم يستمعون للرئيس الأميركي يخاطبهم بتحية الإسلام، واستشهاده بثلاث آيات من القرآن الكريم، «اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً»، «يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وأُنْثى وَجَعلْناكُم شُعُوباً وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ»، «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»، واستشهد بآية من إنجيل متى «هنيئاً لصانعي السلام لأنهم أبناء اللّه يُدعونَ». زار الرئيس باراك أوباما إسرائيل بعد خطابه، وحديث النهار للعرب والمسلمين مَحَتْهُ دهاليز ليالي المصاهرة الأميركية اليهودية، فدولة إسرائيل تُسيطر على الأرض والمياه والأجواء، حتى أنفاس الفلسطينيين المقاومين تحت الرقابة، أما شرعية الدولة الفلسطينية مُزّقت أوراقاً وحبراً. العرب لم يَمِلّوا من السياسة الأميركية بل أصيبوا بالإحباط، ولم يَعُد للبلاغة الخطابية «الأوباماوية» تأثيراً في اختراق العواطف العربية الثائرة، ومن هنا تلاقى الملل الأميركي مع الملل العربي، وكان على طاولة صانعي التوجهات الأميركية الجديدة، الضائقة المالية ومتاعب الاقتصاد الأميركي، وميل الديموقراطيين إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع منطقة جنوب شرقي آسيا والمحيط الهادي «الباسيفيكي»، وهموم أميركية باحتواء المد الصيني الإقليمي في آسيا ومواجهة التحالف الصيني الروسي المضاد لحلف الناتو في الإقليم، والرحيل الأميركي عن الشرق الأوسط أصبح على مقربة من الواقع بعد إنهاء الترتيبات الجيوأوسطية مع إيران بمتابعة ومعرفة من الشريك الاستراتيجي «إسرائيل». الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي استوعب الترتيبات الأميركية منذ وقود ثورات الربيع العربي، وأعتقد أنه تأكد تماماً من الانشقاق السياسي الأميركي بعد الهرطقة الأميركية في التعامل مع الثورة السورية ونظام بشار الأسد، وتُوّجَت تلك الهرطقة بقرب إعلان التفاهم مع إيران حول برنامجها النووي، وحقيقة الأمر هي تفاهمات ستُفضي إلى تحول استراتيجي في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط والخليج خصوصاً، بعد أن أصبحت الولاياتالمتحدة الأميركية أكبر منتج للوقود السائل في العالم، إذ إن الزيادة الكبيرة في الإنتاج من الاحتياطات الصخرية صنعت ثاني أكبر طفرة نفطية في التاريخ، كما ذكرت ذلك شركة استشارات الطاقة الأميركية «بيرا»، وقالت وكالة الطاقة الدولية: إن أميركا تقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي بفضل زيادة حادة في إنتاج الغاز والنفط الصخريين 2017. ليرحل الأميركيون يا سمو الأمير، ويجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تُدرك أن الخليج العربي لا يمثل للولايات المتحدة الأميركية سوى مَمَرّ ترتادُه بوارجها وحاملات طائراتها ثم في يوم ما سترحل عنه، وقد قرب الرحيل! ربما بل هو الخير كُلّه للتخلص من كابوس الوعود الوهمية، وجاثوم الإملاءات والشيطان الكذبوي، ليرحلوا غير مأسوف عليهم، وليس أمام دول الخليج إلا بناء اتحاد قوي يُمكّنها من تفكيك الاعتماد على هشاشة ومساومات مواقف دولية، لترحل أميركا وغيرها للخلاص من عبء وهموم الصفقات وتكاليفها المعنوية والمادية، ونُجَيرّها لمشروع اتحاد خليجي ديموقراطي على منهج شامل للجوانب الاجتماعية والسياسية والتشريعية والأخلاقية، وحكم دستوري يطمئن إليه ويرضاه الأغلبية. الشعوب هي «القوي الأمين» التي تحافظ على استقرار الدول وحمايتها والدفاع عنها في مختلف الظروف والمواقف إذا وصلت إلى مرحلة الاطمئنان بإزالة كل أنواع الفساد والارتياح للأوضاع الداخلية. الإصلاح الجذري الحقيقي يكمن في تطوير عقد اجتماعي، يحمي الحقوق والحريات، ويوفر العدالة الاجتماعية، ويُجدّد الوحدة المعنوية للأمة والمصير، وينهض بطاقات بشرية هائلة انتابها التقاعس والاعتمادية والتخاذل. لنبحث عن حياة غير مشحونة ومرهونة بقضايا خارجية، وتوجس وخيفة مما يفعل هذا وما يُخططُ له ذاك، لتكن الملحمة النهضوية الخليجية وتماسكها الداخلي قوة مستدامة أكثر أماناً واطمئناناً من بوارج وحاملة طائرات مستأجرة! * كاتب سعودي. [email protected] @alyemnia