بدأت ورشة «جنيف 2»، والانطباع السائد اعلامياً وسياسياً أن المعضلة تكمن في ضعف المعارضة وتشرذمها. لكن هذا نصف الحقيقة، فالنصف الآخر أن النظام نفسه ليس في أفضل أحواله كما يحاول الإيحاء، والحملة الاعلامية التي يخوضها لا تخفي قلقه ولا ضعفه. وأظهرت اتصالات أجراها أعضاء الحلقة الضيقة للنظام بعدد من الرموز المنشقّة، لمعاودة استقطابها، أنه يستشعر حلقات مفقودة يحتاج اليها في بناء «الحل السياسي» الذي يلائمه. لا شك في أنه كسب نقاطاً كثيرة بانت معالمها في التركيز الاعلامي الغربي على ظاهرة «الارهابيين» أو «الجهاديين» أو «المتطرفين» التي استشرت أخيراً، غير أن الحكومات والأجهزة تعرف أنه كان له دور مباشر في زرعها. اي أنه لا يتمتع بصدقية ولا بثقة أي جهة خارجية للاعتماد عليه في محاربة هذه الظاهرة. ورغم أن النظام يقدّم الأرض المحروقة أو الدمار المنهجي اللذين ينزلهما بالغوطتين المحيطتين بالعاصمة باعتبارهما مؤشرات لانتصاره، إلا أن تطورات الاسابيع الأخيرة أعادت «معركة دمشق» الى الواجهة والأولويات. لذلك تسارعت التحضيرات لمعركة جبال القلمون، وعُهد الى «حزب الله» التخطيط لها وخوضها، والهدف مرّة اخرى، كما كان في معركة القصير قبل أربعة شهور، الحؤول دون أي محاصرة لدمشق. هذا المناخ الحربي المتصاعد لا يتناقض فقط مع الغطرسة المنبعثة من الظهور الاعلامي المكثّف لبشار الاسد، بل يتناقض كلياً مع المناخ الدولي الذي يهيمن عليه البحث عن سبل اطلاق «حل سياسي». لكن الاتجاهين دخلا في سباق وربما يلتقيان عند نقطة ما لم تتبلور بعد. اذ استعيد مجدداً الحديث عن ضرورة الحفاظ على «الدولة» و «الجيش» و «حماية الاقليات»، في حين أن الوضع الميداني ينذر بمخاطر انهيار قد يحصل على نحو مفاجئ. ما يؤيّد هذه المخاوف المتجددة ان ثمة عملاً جارياً في الخارج على «مشاريع بدائل» للنظام وتشمل أشخاصاً، عسكريين ومدنيين، معروفين ولم يعودوا يظهرون في الاعلام. ففي المشاورات البعيدة من الأضواء لم يعد سرّاً أن النظام بتركيبته الحالية غير مؤهل للمشاركة في أي صيغة مستقبلية، حتى لو كان جزءٌ من تشخيصه للحل مقبولاً من روسياوايران واسرائيل، وبنسبةٍ ما من الولاياتالمتحدة. لكن هناك إشكالاً طرأ أخيراً، مع البدء بالتفتيش عن المخزون الكيماوي لتدميره، ما يحتّم الحاجة الى النظام وتعاونه الكامل في هذا الملف. هذا ما خطّطت له روسيا وارتضاه الاميركيون (والاسرائيليون) طالما أنه يحقق لهم الخطر الكيماوي. أما الاشكال الآخر فهو أن الأزمة السورية تكمن وراء أولوية اخرى ستحققها واشنطن من خلال التقارب مع ايران سواء بالتوصل الى اتفاق في شأن البرنامج النووي أو بتفكيك عُقد العداء الذي ساد العلاقة بين الدولتين، ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون «صفقة» متكاملة تتضمن اعترافاً اميركياً بمصالح ايران في سورية - أياً يكن الحل - إسوة بما حصّلته في العراق. ولا شك في أن «التوافق» الذي يقود التنسيق الحالي بين واشنطنوموسكو قائم على اعتراف أميركي بمصالح روسيا في سورية بغضّ النظر عن صيغة حل الأزمة. لكن إخضاع أي عملية سياسية يمكن أن تنبثق من «جنيف 2» لشروط هذه الاشكالات والتوافقات لن يكون واقعياً ولا عملياً. فهو ببساطة سيقيّد هذه العملية، اذا وُلدت فعلاً، ويقحم فيها أجندات من خارج السياق لا بدّ أن تفاقم الخلافات بين الأطراف السورية، ثم أنه سيربطها زمنياً بالتقدّم المفترض في تلبية مطامع روسية متنوّعة وفي حلحلة ملفي الكيماوي السوري والنووي الايراني. وهكذا يبدو «جنيف 2» منذ الآن بازاراً دولياً يراد اضفاء شكلٍ سوري عليه، أما النتائج فيُراد لها أيضاً أن تكون حصيلة توافق دولي يبدو ممكناً رغم الصعوبات وليس حصيلة توافق سوري لا يزال يبدو مستحيلاً رغم المآسي المتراكمة. وفي هذا البازار تجد الأطراف العربية نفسها مدعوةً الى أن تكون «شاهدة زور» فيما يتكالب الآخرون على نهش الخريطة السورية واقتسامها. بديهي أن ما أضعف الموقف العربي خصوصاً، وموقف «أصدقاء سورية» عموماً، أن تعويلهم على المعارضة ممثلة ب «الائتلاف» لم يلاقِ توقعاتهم من جهة، وفي المقابل لم ينجح الاميركيون يوماً في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب لمساعدة «الائتلاف» على تنظيم صفوف المعارضة واستقطاب أطرافها كافةً. وقد تسبب التشوّش الاميركي في تضليل «الأصدقاء» وشلّ فاعليتهم. ومنذ «صفقة الكيماوي» مع روسيا، لم يعد هناك أي دور أو تماسك يذكر بين «الأصدقاء» طالما أنهم ليسوا صانعي السياسات المتعلّقة بسورية، والمطلوب منهم انتظار «تفاهمات» اميركا وروسيا ليتكيّفوا معها، حتى لو لم تكن ملائمة لمصالحهم أو مجدية لمعالجة الأزمة السورية. ولمعرفة حقيقة هذه «التفاهمات» أثبتت الوقائع أن تصريحات الجانب الروسي غالباً ما تكون أكثر واقعية وشفافية، في حين يواصل الجانب الاميركي الغموض وطمس مواقفه الحقيقية. اذ لم يقل مثلاً أنه وافق على بقاء الاسد الى نهاية ولايته رغم أن جميع «الأصدقاء» يدركون أنه فعل، ولم يقل أنه لا يمانع حضور ايران في «جنيف 2»، أما اشتراطه موافقتها على «جنيف 1» فلا معنى له، فهل يمكن القول إن روسيا نفسها موافقة على «جنيف 1» أم على تفسيرها له، وهل أن اميركا بعيدة فعلاً من التفسير الروسي، ماذا لو أعلنت طهران أنها مع هذا التفسير اسوةً بنظام الاسد وحكومتي العراق ولبنان؟ ثمة مشكلتان كأدآن أمام أي مؤتمر يزمع عقده أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل: شروط النظام ونظرته الى الشعب السوري وعدم اعترافه بالواقع، وشروط المعارضات والسيولة التي يتّسم بها وضعها على الأرض. فكل ما فعله النظام طوال الشهور الأخيرة (بمساعدة الحليف الايراني و «حزب الله») لم يتعدَّ تحسين موقفه التفاوضي، وفرض واقع يكون فيه النظام بديل ذاته، طالما أن المعارضة لم تبلور بديلاً يعتمد عليه. لكن قبل الوصول الى مسألة «البديل»، لا بد للنظام من أن يبرهن أنه لا يزال قادراً على الحكم بعدما تطيّف الصراع الى هذا الحدّ. تعتبر الأطراف الدولية أن هناك حاجة الى «كيان جديد» (وفقاً لجون كيري) في السلطة ليقوم بالمهمات الأمنية المتوقعة (محاربة «داعش» و «النصرة» وأشباههما)، فيما يعمل على لمّ أشلاء البلد والمضي في بناء نظام جديد، لكنها باتت مدركة أن النظام لا يستطيع، بالعقلية التي أظهرها، أن يكون هذا «الكيان» مهما حاولت موسكووطهران - أو شركات العلاقات العامة الاجنبية - ترميمه وتجميله والترويج له. فهذا «الكيان» المطلوب يجب أن يكون تعددياً وجامعاً ليتمكّن من شيء من الاقناع في الداخل كما في الخارج. أما بالنسبة الى المعارضة فقد يميل «الأصدقاء» الى اعادة النظر في «كيانها» الحالي، فرغم اعترافهم ب «الائتلاف» إلا أنهم يشتغلون على أكثر من صعيد ليؤلّفوا وفداً أكثر تكاملاً للمعارضة. صحيح أن تمثيلاً مستقلاً ل «المعارضة» المدجّنة في الداخل غير مقبول، لكن اشارة الأخضر الابراهيمي الى «معارضة مقنعة» بتمثيلها وارتباطها بالداخل قد تعني أن معارضة الخارج تتطلّب اعادة صياغة أو حتى اعادة تصنيع، وهذا في حد ذاته يستلزم وقتاً ولا يمكن انجازه قبل الموعد المبدئي المعلن ل «جنيف 2». وفي كل الأحوال، أياً تكن صيغة التمثيل، فإن المعارضة لن تشارك في أي مؤتمر ما لم توفر الولاياتالمتحدة «ضمانات» تنوي بالفعل احترامها. لكن أوان الضمانات لم يحن بعد. * كاتب وصحافي لبناني