منذ أن خرجت الولاياتالمتحدة الأميركية من عزلتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى وإعلان رئيسها ويلسون مبادئه الشهيرة التي تأسست عليها فلسفة أول منظمة دولية ذات طابع عالمي وهي «عصبة الأمم»، منذ ذلك الحين وشهية الولاياتالمتحدة قد تفتحت لحيازة القوة المؤثرة في العالم والدخول طرفاً في صراعاته، خصوصاً أن الدور الأميركي كان قد بدأ يؤسس لمفهوم «السلام الأميركي» «Paxa America» على غرار «السلام الروماني» الذي تركزت حوله مصالح العالم القديم في فترات نشوء الدول وتطور الشعوب، وقد استأثرت المنطقة العربية بالاهتمام أكثر من غيرها على اعتبار أن «الشرق الأدنى» هو مصدر الأساطير التاريخية ومبعث الديانات السماوية وله أهميته الإستراتيجية وقيمته الاقتصادية خصوصاً مع ظهور النفط، حيث اتجهت الأنظار إلى الجزيرة العربية بعد أن تركز الاستعمار القديم في مصر والشام والعراق وشمال أفريقيا حتى كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة نقلة نوعية للأطماع الأميركية في المنطقة العربية. وفور انتهائها وانحسار موجات الاستعمار التقليدي عنها بدأت واشنطن تفكر ب «نظرية الإحلال» التي عبر عنها الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور الذي كان قائداً لقوات الحلفاء في الحرب الكونية الثانية وهو المبدأ الذي حمل اسمه وركز على ما سمي بنظرية «الفراغ في الشرق الأوسط»، وقد أعقبت ذلك موجة من التغييرات على الساحة العربية لعل أبرزها بدء الانقلابات العسكرية السورية ثم الثورة المصرية عام 1952 فهو ما يعني أن المنطقة قد بدأت في التغير الذي عزز من إعلان قيام الدولة العبرية ودخول العرب في مواجهات دامية معها على امتداد عدة عقود، ولقد ظلت شهية الأميركيين تسعى نحو احتواء الشرق الأوسط في ظل سياسة ظاهرها المبادئ البراقة وباطنها المصالح المباشرة التي تمركزت حول نقطتين أساسيتين هما الحفاظ على أمن إسرائيل وحماية منابع البترول، ولقد ظل هذان الهدفان يسيطران على السياسة الأميركية الخارجية في الشرق الأوسط سواء كانت التحالفات معها أو مع منافسها الاتحاد السوفياتي السابق، ولقد ولدت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية تيارات سياسية مختلفة وتنظيمات فكرية متعددة نذكر منها حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والاشتراكيين الوحدويين فضلاً عن القوى الناصرية والأحزاب اليسارية التي تحكم معظمها في شكل الحياة السياسية وطبيعة الصراع حول السلطة، وقد مضى ذلك متوازياً مع حركة الإسلام السياسي التي ولدت بظهور جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928 بمدينة الإسماعيلية المصرية على يد المرشد الأول حسن البنا، ويهمنا أن نرصد هنا المشاهد التالية للمواقف الأميركية تجاه المنطقة العربية: أولاً: إن نظرية «فرق تسد» الاستعمارية التي هي نتاج للعقلية الاستعمارية البريطانية قد تحولت إلى شعار عملي للسياسة الأميركية في المنطقة، فهم يقفون وراء كل ما من شأنه أن يمزق وحدة العرب أو ينال من إرادتهم حتى جرى تقسيم المنطقة العربية إلى دول «تقدمية» وأخرى «رجعية» مع رصد أميركي كامل لكل ما يدور في العواصم العربية، وقد لاحظت في زيارتي الأخيرة إلى الولاياتالمتحدة الأميركية أن الاهتمام بالمنطقة العربية قد أصبح هاجساً يسيطر على صناع القرار في واشنطن. ثانياً: إن هناك انقساماً بين المسلمين عموماً والعرب خصوصاً وفقاً لألوان سياسية ومعتقدات طائفية، ولعل النموذج العراقي الحديث هو خير دليل في هذه النقطة إذ جرت مجاملة الشيعة العراقيين على حساب أهل السنّة وكان ذلك رد فعل لمجاملة البريطانيين لأهل السنّة عام 1920، وهكذا دق الأميركيون الإسفين الطائفي في قلب العراق وامتدت عدواه إلى المنطقة كلها وأصبحنا لأول مرة أمام صدام سني شيعي ليس له ما يبرره في الحقيقة إلا تلك العناصر المغرضة التي تغذيه في كل مكان. ثالثاً: إن الأجندات المتعددة والارتباطات المتعارضة للقوى السياسية المختلفة بل والنظم الحاكمة في معظم الدول العربية هي التي تضرب العمل العربي المشترك وتدفع نحو الصراعات تحت مظلة الهدف الواحد والغاية المشتركة، فالاختراق الواضح لمراكز صنع القرار العربي من جانب القوى الأجنبية نتيجة الضغوط التي تمارسها قوى كبرى على بعض الدول العربية وتوجيه مساراتها وتحديد سياساتها والهدف الحقيقي منه هو حماية مصالح تلك القوى الكبرى وتأمين سيطرتها الدائمة على القرار السياسي الخارجي بل والداخلي لتلك الدول العربية، وهو ما يدفع بعضها إلى التغريد خارج السرب وانتهاج سياسات لا تفسير لها ولا جدوى منها، والملاحظ في العقود الأخيرة هو قيام الولاياتالمتحدة الأميركية بصنع فزاعات أمام النظم والشعوب بحيث تدفعها إلى السير في طريق معين بعيداً عن الخط القومي أو حتى الوطني الذي كان يجب أن تسلكه تلك القوى أو النظم في المنطقة العربية. رابعاً: إن محاولات تغييب دور الشعوب العربية وتهميش تأثيرها في القرار السياسي العربي هي مسألة لا تخفى على أحد إذ أنها تعني في أبسط معانيها الترويج للاستبداد بل وحماية الفساد وتحويل القرار السيادي إلى قرار فردي لا يعكس بالضرورة آمال الشعوب أو تطلعات الأجيال، ولو أخذنا ما سمي بثورات «الربيع العربي» نموذجاً لفهم هذه الحقيقة لوجدنا أن معظم تلك الثورات قد انحرفت عن مسارها وخرجت عن طريقها وأصبحت شيئاً مختلفاً إلى حد كبير عن الهدف منها، فقد غاب الاستقرار واستمر الانفلات الأمني والأخلاقي ولم يسقط حاجز الخوف وحده ولكن سقط معه أيضاً حاجز الاحترام على كل مستوياته بحيث أصبحنا أمام نموذج يدعو إلى القلق ويفتح الأبواب أمام احتمالات الفوضى وعودة السيطرة الأجنبية وتراجع الخطط الوطنية والالتزامات القومية حتى يعود الاستبداد من جديد في ثوب مختلف ونداء حديث ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. خامساً: دعنا نعترف بأن الجمود الفكري والتخلف الثقافي والاجتماعي إلى جانب تراجع المنظومة التعليمية وتهاوي قيمة العلم قد أدت كلها إلى ضعف بنية الدولة وانحسار دورها بشكل غير مألوف، ويهمني أن أسجل هنا أن تراجع النظام التعليمي تحديداً يتحمل المسؤولية الكبرى في ضعف الدول العربية الحديثة وهبوط إسهامها في ثقافة العصر وبنائه الفكري، ويكفي أن نتذكر حجم المطبوعات العربية والدراسات العلمية الصادرة عن مؤسساتنا التعليمية لكي ندرك كم نحن متخلفون عن غيرنا! ويجب أن لا ننسى هنا أن التفوق في البحث العلمي هو الذي يضعنا على خريطة العصر وهو أمر لا يتحقق إلا بالنهضة التعليمية التي نرى أنها بوابة العصر التي لا يمكن الدخول إلى مجتمع الحداثة من دون المرور منها لذلك فنحن نطالب بالاهتمام بالمنظومة التعليمية في دولنا العربية مع الوضع في الاعتبار أن ذلك هو الطريق الأوحد نحو مجتمع الغد بآماله وأمانيه. سادساً: لا شك أن الولاياتالمتحدة الأميركية لا زالت تنظر إلى دول العالمين العربي والإسلامي بكثير من الريبة وتبالغ في المخاوف على أمنها بعد أن فتحت ملفاً ضخماً بما يسمى «الحرب على الإرهاب» خصوصاً بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 والتداعيات الخطيرة التي أخرجها ذلك الحادث المشؤوم حتى ظلت تلك التداعيات سيفاً مسلطاً على النظم والشعوب في ظل حالة وصاية أميركية على الخريطة المعاصرة لقارات العالم كله وتحاول الولاياتالمتحدة توجيه المسارات المتعددة على ساحة المنطقة من أجل تحقيق أهدافها وتأمين مصالحها وإخضاع العرب والمسلمين لمخططاتها على المدى البعيد كما أن واشنطن تلوح بسلاح المعونة العسكرية والفنية عند اللزوم بحيث يتم تضييق الخناق على القرار الوطني بشكل غير مسبوق في تاريخ نظم الحكم وإدارة الأزمات. سابعاً: تلعب إسرائيل دور مهندس التخطيط للسياسات الأميركية بإداراتها المتعاقبة، وإذا تأملنا الأزمة السورية - على سبيل المثال - لوجدنا الهدف الإسرائيلي لا يتضمن الإطاحة بنظام الرئيس الأسد ولكن الهدف هو ضرب البنية العسكرية بالقضاء على الأسلحة الكيماوية وذلك تأميناً لإسرائيل ومؤيديها، فما من قرار أميركي أو حتى غربي يتناول الوضع في الشرق الأوسط إلا وإسرائيل هي اللاعب الرئيس الذي ينفث سمومه في جسد الأمتين العربية والإسلامية فيمتص دماء الشعوب ويصادر حركة الأجيال القادمة ويغتال الرموز الواعدة للتحرر الوطني والديموقراطية الصحيحة والتنمية المستدامة في ظل تزايد معدلات النمو السكاني وضعف البنية الأساسية وانعدام حيازة هذه الدول لأسباب التقدم وعوامل النهضة. هذه قراءة لخواطر زائر للولايات المتحدة قبل أيام قليلة من قرار المساس بالمعونة الأميركية لمصر لذلك فإن الأمر الذي يثير الدهشة هو أن الأميركيين يدركون جيداً دوافع ما حدث منذ 30 حزيران (يونيو) 2013 ومع ذلك فهم يتخذون من المواقف ويصدرون من القرارات ما يعتبر تأكيداً لوجود أجندات محددة وأهداف واضحة تستثمر الأحداث التي تجري وتوظفها لخدمة أهدافها التي لا تتوقف وأطماعها التي لا تنتهي. * كاتب مصري