تُعتبَرُ مُؤسسة الأوقاف الإسلامية من أرقى مؤسسات التكافُل الاجتماعي التي ساهمت في تطوير العلوم والمعارف، وتكفّلت بحلّ الكثير من المشاكل التي يستعصى حلُّها في غياب مؤسسة الأوقاف، ونظراً إلى الفوائد الْجمّة التي أنتجتها الأوقافُ سابقاً ولاحقاً؛ فقد استفادت من نُظُم الأوقاف الإسلامية الأممُ والشعوبُ غير الإسلامية فأنشأتْ مؤسسات وقفية متنوِّعة الأغراض، فمنها ما هو خاصٌّ بعلاج ومعالجة أمراض السرطان أو أمراض القلب، أو بمساعدة الزَّمنى أصحاب الاحتياجات الخاصّة، أو بتقديم مِنح دراسية للطلبة المحتاجين من خلال مؤسسات ثقافية وقفية تُعرف بالجمعيات الخيرية، ويتَّضِحُ أن هذه الجمعيات قد ساهمت بتخريج أعداد من الطلاب تفوق الأعدادَ التي ساهمت الدولُ بتخريجها، والأمثلة متوافرة في الشرق والغرب. ولم تقتصرْ خدماتُ مؤسسة الأوقاف الإسلامية على توفير الرفاه لبني آدم بل تجاوزت ذلك وامتدت إلى خدمة الحيوانات، ومن أمثلة ذلك الوقف الشامي على الحيوانات السائبة، وكان ذلك الوقف في دمشق على ضفاف فروع نهر بردى في المنطقة التي احتلتها مؤسسة معرض دمشق الدولي، فقد كانت هذه الأرض وقفاً على الحيوانات التي تعجز عن تقديم الخدمات المطلوبة بسبب كبر السنّ، أو بسبب الإصابات التي كانت تتعرّض لها خيول المجاهدين وغيرها، ولذلك تمّ وقف تلك المنطقة الخصبة المروية لتأمين المأكل والمشرب لتلك الحيوانات كي تعيش حياتها كاملةً حتى تلاقي حتفها المحتوم في شكل طبيعي دون تدخُّل خارجيّ قسريّ، وذلك من باب الرفق بالحيوان، كي لا تتعرض للنحر اغتيالاً بحسب ما يُسمّى بالقتل الرحيم في المجتمعات الغربية التي أباحت ذلك للتخلُّص من بعضِ العجزة والزمنى، من بني الإنسان والحيوان. ومن الكُتُب التي تسلِّط الأضواء على الوقف والوقفيات ومرافق الوقف وأنواعها، وطُرُق الاستفادة منها؛ كِتابُ «الأوقاف في مصر قبل وخلال العهد العثماني» وقد صدرَ عن مؤسسة «وقف الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية» في إسطنبول، وهو من إعداد آيدين أوزكان، ويقع في 306 صفحات من الحجم الموسوعي. ومحتويات الكتاب مكتوبة باللغة العربية واللغة التركية بالحروف اللاتينية، وما كُتب بالتركية هو تحويل للنصوص المكتوبة بالحروف العربية العثمانية، ولذلك يصعُب على من لا يعرف اللغة التركية أن يستفيد الاستفادة المرجوّة، ولو تمّ إصدار طبعتين من الكتاب إحداهما باللغة العربية فقط والثانية باللغة التركية فقط لتحققت فوائد أكثر للقرّاء من العرب والأتراك. لكنّ المشرفين على نشر الكتاب أرفقوا به قُرصاً مدمجاً (CD) يحتوي على (121) لوحة من لوحات الدفتر الذي بُني عليه هذا الكتاب. والقرص المدمج يُذلّلُ عقبة قراءة محتويات الدفتر الوقفي ولكنّه لا يُذللُ مُعضلة فَهْمِ النصوص العثمانية المكتوبة بخطِّ السياقات، وهو خطّ الشيفرة الخاصة بكُتَّاب دواوين المحاسبة في عهد الخلافة الإسلامية العثمانية. ورغم معضلة اللغة فالكتاب مفيدٌ في بابه إذ يقدّم معلومات غزيرة ومفيدة تخصّ (442) وقفية، وتنتشر هذه الوقفيات في مصر وفلسطين والأردن وسورية ولبنان والحجاز، وغير ذلك من بلدان العالم الإسلامي، فمحتويات الكتاب تتجاوزُ حدود عُنوانه إلى حدود الدولة المملوكية. كَتَبَ تقديم الكتاب في صفحة ونصف الصفحة أكمل الدين إحسان أوغلي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ورئيس «وقف الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية» المسمى: «إيسار» وهو قريب من مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول «إرسيكا». وذكر مُعدُّ الكتاب في المقدمة إن عمله استند إلى دفتر من دفاتر تحرير الأوقاف العثمانية في عهد السلطان سليم الأول، ويُعرفُ الدفترُ باسم «أوقاف مصر قبل الفتح» والأصلُ محفوظ في مجموعة مخطوطات المعلم جودت تحت الرقم: 862، في مكتبة أتاتورك المعروفة بمكتبة البلدية في القسم الأوروبي الشمالي من مدينة إسطنبول. وأَتْبَعَ مُعدُّ الكتابِ المقدّمةَ بمدخلٍ تضمَّن تعريفاً بالدفتر الذي «سُجّلت فيه الأوقاف باللغة العربية، بينما وُضعت التوضيحاتُ الملحقة أثناء تحرير الوقف باللغة التركية العثمانية... وأقدمُ وقف في الدفتر يعود إلى العهد الأول للأيوبيين سنة 573 ه/ 1177 م، وآخر وقفية تم تسجيلها فيه تعود إلى العهد العثماني سنة 935 ه/ 1528م». وتتوزع الوقفيات على عهود عدة، فمنها أربع وقفيات من العهد الأيوبي (567 ه/ 1171م – 648 ه/ 1250 م)، و 27 وقفية من العهد المملوكي (684 ه/ 1250م – 792 ه/ 1390م)، و 182 وقفية من العهد المملوكي الشركسي (792 ه/ 1390م – 923 ه/ 1517م)، و 40 وقفية من العهد العثماني، و 103 وقفيات غير محدّدة التاريخ. وتحديدُ تاريخها يتطلّب دراسات مستفيضة في الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية، وأنساب العائلات التي أوقفت تلك الأوقاف الخيرية. أما أنواع الوقف التي يتضمّنها الدفترُ فيوجد منها 232 وقفاً من الأوقاف على الذُّرية من ما مجموعه 356 وقفاً، وتضمّن الدفتر أوقاف الخدمات الإنسانية، ومنها: 11 وقفاً على زوايا الصوفية، و 3 أوقاف على الأربطة، و19 وقفاً على المدارس، و 20 وقفاً على الجوامع، و 17 وقفاً على قُرّاء القرآن الكريم، و6 أوقاف على أئمة الجوامع والمؤذنين، وثمّة وقف واحد على أئمة المذهب، و 12 وقفاً على الفقراء والمساكين، ووقف واحد على الأيتام، ووقفان اثنان على المستشفيات، ووقف واحد على كبار السنّ، ووقفان على الأشراف والسادات من السلالة الهاشمية، و29 وقفاً على مرافق متنوعة، فيكون مجموعها: 124 وقفاً من أوقاف الخدمات الخاصّة والعامة. وتشملُ الأوقافُ الواردة في هذا الدفتر 86 مُلكاً، و9 حَمَّامات، و27 دكاناً، و71 طاحونة، و9 أفران، ومجموع الأراضي الموقوفة 7257 قيراطاً و246 فداناً و758 تماماً. و161 غراسة فيها 810 قراريط تمام، ويقع فيها470 بستاناً ضمن مساحة 470 قيراطاً و192 تماماً، وفداناً واحداً، و536 أرضاً، و1940 قيراطاً، و351 تماماً، وفيها 242 مزرعة مساحتها 1270 قيراطاً، و32 فداناً، و70 تماماً، وفيها 13 حقلاً من الكروم مساحتها 93 قيراطاً و9 تمامات. وتتوزع الأوقاف المسجلة في الدفتر على 557 قرية، وتساوي مساحة الأوقاف 3480 قيراطاً من مجموع الأملاك التي تبلغ مساحتها 13368 قيراطاً. وكل حقل يساوي 400 قصبة، وكل قصبة تساوي ست أذرع وثُلُُثيّ الذراع، وكل فدان يساوي 4 دونمات و24 قيراطاً. وكل تمام يساوي 24 قيراطاً. وكل دونم يساوي 1000 متر مربع. ويتضمَّن الكتاب دراسةً وافية باللغة التركية الحديثة تقع في مئة صفحة، وفيها جداول وإحصائات لكلّ ما ورد ذِكْره ضِمن الدفتر باللغة العثمانية، أما القسم المكتوب باللغة العربية، والتركية الحديثة فيمتدّ من الصفحة 103 حتى الصفحة 270 ثمّ يليه كشاف بالتركية، وجرى ترتيب المواد الواردة بالدفتر بطريقة تلائم الكتابة التركية باللاتينية من اليسار إلى اليمين رغم أن الترتيب الأساسي العثماني للدفتر هو من اليمين إلى اليسار، وكان من الأفضل جعل اللغة الحديثة بحسب الترتيب العربي - العثماني لأن الفروع تتبع الأصول وليس العكس. وعلى رغم هذه الملاحظات يعتبر نشر مضمون هذا الدفتر إنجازاً مهماً لأنه يثبت العديدَ من أملاك الأوقاف في مصر وفلسطين وسورية ولبنان والأردن والحجاز، ويعتبر وثيقة رسمية قد تساعد المظلومين على استرداد أوقافهم التي بطش بها أصحابُ النفوذ دونما وجه حقّ.